عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب رزق الحكام والعاملين عليها
  
              

          ░17▒ (ص) بَابُ رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينِ عَلَيْهَا.
          (ش) أي: هذا بابٌ فيه بيان (رِزْق الحُكَّامِ) بِضَمِّ الحاء وتشديد الكاف، جمع (حاكم) (وَالعَامِلِينَ) جمع (عاملٍ) وهو الذي يتولَّى أمرًا مِن أعمال المسلمين، كالولاة وجُباة الفيء وعمَّال الصدقات ونحوهم، وفي بعض النُّسَخ: <باب رزق الحاكم> وفي بعضها: <باب رزق القاضي> والرزق: ما يرتِّبه الإمام مِن بيت المال لمَن يقوم بمصالح المسلمين.
          قوله: (عَلَيْهَا) قال بعضهم: أي على الحكومات.
          قُلْت: الصواب أن يقال: على الصدقات، بقرينة ذكر الرزق والعاملين.
          (ص) وَكَانَ شُرَيْحٌ ☺ يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا.
          (ش) (شُرَيْحٌ) هو ابن الحارث بن قيسٍ النَّخَعِيُّ الكوفيُّ قاضي الكوفة، ولَّاه عمر ☺ ، ثُمَّ قضى / مِن بعده بالكوفة دهرًا طويلًا، ثقةٌ مخضرمٌ أدرك الجاهليَّة والإسلام، ويقال: إنَّ له صحبةً، مات قبل الثمانين وقد جاوز المئة.
          قوله: (أَجْرًا) أي: أُجرةً، وفي «التلويح»: هذا التعليق ضعيفٌ، وهو يردُّ على مَن قال: التعليق المجزوم به عند البُخَاريِّ صحيحٌ.
          قُلْت: رواه عبد الرَّزَّاق وسعيد بن منصورٍ مِن طريق مُجَالدٍ عن الشعبيِّ بلفظ: كان مسروقٌ لا يأخذ على القضاء أجرًا، وكان شريحٌ يأخذ، وروى ابن أبي شَيْبَةَ عن الفضل بن دُكَيْنٍ عن الحسن بن صالحٍ عن ابن أبي ليلى قال: بلغنا _أو قال: بلغني_ أنَّ عليًّا ☺ رزق شُريحًا خمس مئةٍ.
          قُلْت: هذا يؤيِّد قول مَن قال: التعليق المذكور ضعيفٌ؛ لأنَّ القاضي إذا كان له شيءٌ مِن بيت المال؛ ليس له أن يأخذ شيئًا مِنَ الأُجرة، وقال الطَّبَريُّ: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأُجرةَ على الحكم؛ لكونه يَشغله الحكمُ عن القيام بمصالحه، غير أنَّ طائفةً مِنَ السلف كرهت ذلك، ولم يحرِّموه مع ذلك، وقال أبو عليٍّ الكرابيسيُّ: لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبةً مِنَ الصحابة ومَن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهم اختلافًا، وقد كَرِه ذلك قومٌ، منهم مسروقٌ، ولا أعلم أحدًا منهم حرَّمه، وقال صاحب «الهداية»: ثُمَّ القاضي إذا كان فقيرًا فالأفضل بل الواجب أخذ كفايته، وإن كان غنيًّا فالأفضل الامتناع عن أخذ الرزق مِن بيت المال؛ رفقًا ببيت المال، وقيل: الأخذ هو الأصحُّ صيانةً للقضاء عن الهوان، ونظرًا لمن يولَّى بعده مِنَ المحتاجين، ويأخذ بقدر الكفاية له ولعياله.
          (ص) وَقَالَتْ عَائِشَةُ ♦: يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ.
          (ش) (العُمَالة) بِضَمِّ العين وتخفيف الميم، وقيل: هو مِنَ المثلَّثات، وهي أجرة العمل، ووصل ابنُ أبي شَيْبَةَ هذا التعليقَ مِن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:6] قالت: أُنزِل ذلك في والي مال اليتيم، يُقدِمُ عليه بما يصلحُه إن كان محتاجًا أن يأكل منه.
          (ص) وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ☻.
          (ش) أكْلُهَما كان في أيَّام خلافتهما؛ لاشتغالهما بأمور المسلمين، ولهما مِن ذلك حقٌّ، وأثر أبي بكرٍ ☺ وصله أبو بَكْر [ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق ابن شهابٍ عن عروة عن عائشة قالت: لمَّا استُخلِف أبو بكرٍ] قال: قد علم قومي أنَّ حرفتي لم تكن تعجِزُ عن مؤنة أهلي، قد شُغِلت بأمر المسلمين، وفيه: فسيأكل آل أبي بكرٍ مِن هذا المال، وأثر عمر وصله ابن أبي شَيْبَةَ أيضًا وابن سعدٍ مِن طريق حارثة بن مُضَرِّبٍ _بِضَمِّ الميم وفتح الضاد المُعْجَمة وتشديد الراء المكسورة بعدها باءٌ مُوَحَّدةٌ_ قال: قال عمر: إنِّي أَنْزَلتُ نفسي مِن مال الله منزلة قيِّم اليتيم إن استغنيتُ عنه تركتُ، وإن افتقرتُ إليه أكلتُ بالمعروف.