عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس
  
              

          ░14▒ بَابُ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلعم لِهِنْدَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرٌ مَشْهُورٌ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان مَن رأى مِنَ الفقهاء للقاضي _ويروي: <للحاكم>_ أن يحكم بعلمه في أمر الناس، وأشار بهذا إلى قول الإمام أبي حنيفة ☺ ، فإنَّ مذهبَه أنَّ للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس، وقيَّد به لأنَّه ليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود.
          قوله: (إِذَا لَمْ يَخَفِ) أي: القاضي (الظُّنُونَ والتُّهَمَةَ) بفتح الهاء، وشَرَط شرطين في جواز ذلك: أحدهما: عدم التُّهَمة، والآخر: وجود شهرة القضيَّة، أشار إليه بقوله: (إِذَا كَانَ أَمْرٌ مَشْهُورٌ).
          قوله: (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلعم ...) إلى آخره، ذكره في معرض الاحتجاج لمن رأى للقاضي أن يحكم بعلمه، فإنَّ النَّبِيَّ صلعم قضى لهند بنفقتها ونفقة ولدها على أبي سفيان؛ لعلمه بوجوب ذلك، و(هِنْد) هي بنت عُتْبَةُ بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد منافٍ، أمُّ معاوية، زوجة أبي سفيان بن حَرْبٍ، أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها، وهذا وصله البُخَاريُّ في (النفقات).
          ثُمَّ هذه المسألة فيها أقوالٌ للعلماء، فقال الشافعيُّ: يجوز للقاضي ذلك في حقوق الناس سواءٌ علم ذلك قبل القضاء أو بعده، وبه قال أبو ثورِ، وقال أبو حنيفة: ما علمه قبل القضاء مِن حقوق الناس لا يحكم فيه بعلمه، ويحكم فيما إذا علمه بعد القضاء، وقال أبو يوسف ومُحَمَّدٌ: يحكم فيما علمه قبل القضاء، وقال شريحٌ والشعبيُّ ومالكٌ في المشهور عنه وأحمد وإسحاق وأبو عُبَيدٍ: لا يقضي بعلمه أصلًا، وقال الأوزاعيُّ: ما أقرَّ به الخصمان عنده أخذهما به وأنفذه عليهما إلَّا الحدَّ، وقال عبد الملك: يحكم بعلمه فيما كان في مجلس حكمه، وقال الكرابيسيُّ: الذي عندي أنَّ شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهورًا بالصلاح والعفاف والصدق، لم يُعرَف بكثير زَلَّةٍ، ولم يوجد عليه خَرَبة، بحيث تكون أسباب التقى فيه موجودة، وأسباب التُّهَم فيه مفقودة، فهذا الذي يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقًا.