عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الشهادة على الخط المختوم
  
              

          ░15▒ (ص) بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ عَلَيْهِمْ وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ، وَالْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم الشهادة على الخطِّ المخْتُوم؛ بالخاء المُعْجَمة والتاء المُثَنَّاة مِن فوقُ، هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <المحكوم> بالحاء المُهْمَلة والكاف، وليست هذه اللَّفظة بموجودةٍ عند ابن بَطَّالٍ، ومعناه: هل تصحُّ الشهادة على خطٍّ بأنَّه خطُّ فلانٍ؟ وقيَّد بـ(المختوم) لأنَّه أقرب إلى عدم التزوير على الخطِّ.
          قوله: (وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ) [أي: مِنَ الشهادة على الخطِّ.
          قوله: (وَمَا يَضِيقُ) أي: ما لا يجوز مِن ذلك]
، وحاصل المعنى: أنَّ القول بجواز الشهادة على الخطِّ ليس على العموم نفيًا وإثباتًا؛ لأنَّه لو مُنِع مطلقًا تضيع الحقوق، ولا يُعمَل به مطلقًا؛ لأنَّه لا يُؤمَن فيه التزوير، فحينئذٍ يجوز ذلك بشروطٍ.
          قوله: (وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ) عطفٌ على قوله: (باب الشهادة) أي: وفي بيان جواز كتاب الحاكم إلى عُمَّاله، بِضَمِّ العين وتشديد الميم، جمع (عامل).
          قوله: (وَكِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي) أي: وفي بيان جواز كتاب القاضي إلى القاضي، وهذه الترجمة مشتملةٌ على ثلاثة أحكامٍ كما رأيتَها، ويجيء الآن بيان حكم كلٍّ منها مع بيان الخلاف فيها.
          (ص) وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلَّا فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَهْوَ جَائِزٌ؛ لأنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّما صَارَ مَالًا بَعْدَمَا ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَإِنَّ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ وَاحِدٌ.
          (ش) أراد بـ(بَعْض النَّاسِ) الحَنَفيَّة، وليس غرضه مِن ذكر هذا ونحوه مِمَّا مضى إلَّا التشنيع على الحَنَفيَّة لأمرٍ جرى بينه وبينهم، حاصل غرض البُخَاريِّ مِن هذا الكلام: إثبات المناقضة فيما قاله الحَنَفيَّة، فَإِنَّهُم قالوا: كتاب القاضي جائزٌ إلَّا في الحدود، ثُمَّ قالوا: إن كان القتل خطأً يجوز فيه كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأنَّ قتل الخطأ في نفس الأمر مالٌ؛ لعدم القصاص فيه، فيلحق بسائر الأموال في هذا الحكم، وقوله: (وَإِنَّما صَارَ مَالًا...) إلى آخره بيان وجه المناقضة في كلام الحَنَفيَّة، حاصله: أَنَّما يصير قتل الخطأ مالًا بعد ثبوته عند الحاكم، و(الخَطَأُ والعَمْدُ وَاحِدٌ) يعني في أَوَّل الأمر حكمهما واحدٌ لا تفاوت في كونهما حدًّا، والجواب عن هذا أن يُقال: لا نسلِّم أنَّ الخطأ والعمد واحدٌ، وكيف يكون واحدًا ومقتضى العمد القصاص ومقتضى الخطأ عدم القصاص ووجوب المال لئلَّا يكون دم المقتول خطأً هدرًا، وسواءً كان هذا قبل الثبوت أو بعده.
          (ص) وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِي الحُدُودِ.
          (ش) أي: كتب عُمَر بن الخَطَّاب إلى عامله في الحدود، وغرضه مِن إيراد هذا الردُّ على / الحَنَفيَّة أيضًا في عدم رؤيتهم بجواز كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود، ولا يردُّ على ما نذكره، وذكر هذا الأثر عن عمر للردِّ عليهم فيما قالوه.
          قوله: (فِي الحُدُودِ) هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتَمْلِي والكُشْميهَنيِّ: <في الجارود> بالجيم وبالراء المضمومة وفي آخره بالدال المُهْمَلة، وهو الجارود بن الْمُعَلَّى بن العلاء، يُكْنَى أبا غياثٍ، كان سيِّدًا في عبد القيس رئيسًا، قال ابن إسحاق: قَدِمَ على رسول الله صلعم في سنة عشرٍ في وفد عبد القيس، وكان نصرانيًّا فأسلم وحسُن إسلامه، ويقال: إنَّ اسمه بشر بن عَمْرو، وإِنَّما قيل له: الجارود؛ لأنَّه أغار في الجاهليَّة على بَكْر بن وائلٍ، فأصابهم وجرَّدهم، وسكن البصرة، وقُتِلَ بأرض فارس، وقيل: قُتِل بأرض نهاوند مع النعمان بن مُقَرِّنٍ في سنة إحدى وعشرين، وله قصَّةٌ مع قُدَامة بن مظعون عامل عمر ☺ على البحرين، أخرجها عبد الرَّزَّاق مِن طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: استعمل عمرُ قُدامةَ بنَ مظعونٍ، فقدم الجارودُ سيِّد عبد القيس على عمر فقال: إنَّ قُدَامة شرب فسكر، فكتب عمر إلى قُدامة في ذلك، فذكر القصَّة بطولها في قدوم قُدَامة وشهادة الجارود وأبي هُرَيْرَة عليه، وجلده الحدَّ، والجواب عنه: أنَّ كتاب عمر ☺ إلى عامله لم يكن في إقامة الحدِّ، وإِنَّما كان لأجل كشف الحال، ألا يُرى أنَّ عمر هو الذي أقام الحدَّ فيه بشهادة الجارود وشهادة أبي هُرَيْرَة؟
          (ص) وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ☺ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ.
          (ش) أي: كتب إلى عامله رُزَيق بن حكيم في شأن سنٍّ كُسِرَت، وكان كتب إليه كتابًا أجاز فيه شهادة رجلٍ على سنٍّ كُسِرت، وهذا وصله أبو بكرٍ الخلَّال في كتاب «القصاص والديات» مِن طريق عبد الله بن المبارك عن حكيم بن رُزَيق عن أبيه، فذكر ما ذكرناه.
          (ص) وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ.
          (ش) (إِبْراهِيمَ) هو النَّخَعِيُّ، ووصله ابن أبي شَيْبَةَ عن عيسى بن يونس عن عُبَيدة عنه.
          (ص) وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَاضِي.
          (ش) (الشَّعْبِيُّ) هو عامر بن شَرَاحيل التَّابِعِيُّ الكبير، ووصله ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق عيسى بن أبي عزَّة قال: كان عامرٌ _يعني الشعبيَّ_ يجيز الكتاب المختوم يجيئه مِنَ القاضي.
          (ص) وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ.
          (ش) أي: يُرْوَى عن عبد الله بن عُمَر نحو ما رُوِي عن الشعبيِّ، ولم يصحَّ هذا، فلذلك ذكره بصيغة التمريض.
          (ص) وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفيُّ: شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِيَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيَّ وَعَامِرَ بْنَ عُبَيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ إِلَيْهِ بِالْكِتَابِ: إنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ.
          (ش) (مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الكريمِ الثَّقَفيُّ) المعروف بالضالِّ؛ بالضاد المُعْجَمة واللَّام المشدَّدة، سُمِّي بذلك لأنَّه ضلَّ في طريق مكَّة، وثَّقه أحمد وأبو داود والنَّسائيُّ، ومات سنة ثمانين ومئةٍ، ووصل أثره وكيعٌ في «مصنَّفه» عنه.
          قوله: (شَهِدْتُ) أي: حضرت (عَبْدَ المَلِكِ بْنَ يَعْلَى) بوزن (يَرْضَى) التَّابِعِيُّ الثقة، ولَّاه يزيد بن هُبَيْرة قضاء البصرة لمَّا وُلِّيَ إمارتها مِن قِبَل يزيد بن عبد الملك بن مروان، ومات على القضاء بعد المئة بسنتين أو ثلاثٍ، ويقال: بل عاش إلى خلافة هشام بن عبد الملك، فعزله.
          قوله: (وَإِيَاسَ) بكسر الهمزة وتخفيف الياء آخر الحروف وبالسين المُهْمَلة (ابْنَ مُعَاوِيَةَ) المزنيَّ، المعروف بالذكاء، وكان قد وُلِّي قضاء / البصرة في خلافة عُمَر بن عبد العزيز ☺ ، ولَّاه عَدِيُّ بن أرطاة عاملُ عمرَ عليها بعد امتناعٍ منه، مات سنة ثنتين ومئةٍ، وهو ثقةٌ عند الجميع.
          قوله: (وَالْحَسَنَ) هو البَصْرِيُّ الإمام المشهور، وكان وُلِّي قضاء البصرة مدَّةً لطيفةً، ولَّاه عَدِيًّ بن أرطاة عاملها، وأبوه يسارٌ رأى مئةً وعشرين مِن أصحاب رسول الله صلعم ، مات في شهر رجب سنة عشرٍ ومئةٍ، وهو ابن تسعٍ وثمانين سنةً.
          قوله: (وَثُمَامَةَ) بِضَمِّ الثاء المُثَلَّثة وتخفيف الميمين (ابْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ) ابن مالكٍ، وكان تابعيًّا ثقةً، وُلِّي قضاء البصرة في أوائل خلافة هشام بن عبد الملك، ولَّاه خالدٌ القَسْريُّ سنة ستٍّ ومئةٍ، وعزله سنة عشرٍ وولَّى بلالَ بنَ أبي بُرْدَةَ، ومات ثُمامةُ بعد ذلك، [روى عن جدِّه أنس بن مالكٍ والبراء بن عازبٍ].
          قوله: (وَبِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ) بِضَمِّ الباء المُوَحَّدة، اسمه عامرٌ أو الحارث ابن أبي موسى الأشعريِّ، وكان صديقَ خالدِ بن عبد الله القَسْريِّ، فولَّاه قضاء البصرة لمَّا وُلِّيَ إمرتَها مِن قِبَل هشام بن عبد الملك، وضمَّ إليه الشرطة، وكان أميرًا وقاضيًا إلى أن قتله يوسف بن عُمَر الثَّقَفيُّ لمَّا وُلِّي الإمرة بعد خالدٍ، ولم يكن محمودًا في أحكامه.
          قوله: (وَعَبْدَ اللهِ بْنَ بُرَيْدَةَ) بِضَمِّ الباء المُوَحَّدة وفتح الراء، الأسلميَّ التَّابِعِيَّ المشهور، وكان وُلِّي قضاء مرو بعد أخيه سليمان سنة خمسٍ ومئةٍ إلى أن مات وهو على قضائها سنة خمس عشرة ومئةٍ، وذلك في ولاية أسد بن عبد الله القَسْريِّ على خراسان، وهو أخو خالدٍ القَسْريِّ، وحديث عبد الله بن بُرَيدة بن الحُصَيب هذا في الكتب السِّتَّة.
          قوله: (وَعَامِرَ بْنَ عُبَيدَةَ) بِضَمِّ العين وفتح الباء المُوَحَّدة وسكون الياء آخر الحروف، وقيل: (عَبَدة) بفتحتين، وقيل: (عَبْدة) بفتح العين وسكون الباء، هو ثقةٌ، تابعيٌّ قديمٌ ثقةٌ، وحديثه عند النَّسائيِّ، وعُمِّرَ وكان وُلِّي القضاء بالكوفة مَرَّةً.
          قوله: (وَعَبَّادَ) بفتح العين المُهْمَلة وتشديد الباء المُوَحَّدة (ابْنَ مَنْصُورٍ) الناجي _بالنون والجيم_ أبو سَلَمَةَ البَصْرِيُّ، قال أبو داود: وُلِّي قضاء البصرة خمس مرِّاتٍ، وكان يُرمى بالقدر فلذلك ضعَّفوه، وحديثه في «السُّنَن الأربعة» وعلَّق له البُخَاريُّ شيئًا، مات سنة اثنتين وخمسين ومئة.
          قوله: (يُجِيزُونَ) جملةٌ حاليَّةٌ.
          قوله: (فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ) بفتح الميم وسكون الخاء المُعْجَمة؛ أي: اطلب الخروج مِن عهدة ذلك إمَّا بالقدح في البيِّنة بما يقبل فتبطُل الشهادة، وإمَّا بما يدلُّ على البراءة مِنَ المشهود به.
          (ص) وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللهِ.
          (ش) (ابْنُ أَبِي لَيْلَى) هو مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، واسم أبي ليلى يسارٌ قاضي الكوفة، وأَوَّلُ ما وُلِّيها في زمن يوسف بن عُمَر الثَّقَفيُّ في خلافة الوليد بن يزيد، ومات سنة أربعين ومئةٍ، وهو صدوقٌ اتَّفقوا على ضعف حديثه مِن قِبَل سوء حفظه، وحديثه في «السُّنَن الأربعة»، و(سَوَّار) بفتح السين المُهْمَلة وتشديد الواو (ابْنُ عَبْدِ اللهِ) العنبريُّ، نسبةً إلى بني العنبر، من بني تميمٍ، قال ابن حِبَّان في «الثقات»: كان فقيهًا، ولَّاه المنصور قضاء البصرة سنة ثمانٍ وثلاثين ومئةٍ، فبقي على قضائها إلى أن مات في ذي القعدة سنة ستٍّ وخمسين ومئةٍ.
          (ص) وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحْرِزٍ: جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ: أَنَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، وَهْوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن فَأَجَازَهُ.
          (ش) (أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكَيْن، أحد مشايخ البُخَاريِّ، نقله عنه مُذاكرةً، و(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحْرِزٍ) بِضَمِّ الميم وسكون الحاء المُهْمَلة وكسر الراء وفي آخره زايٌ، هو كوفيٌّ، وما له في «البُخَاريِّ» سوى هذا الأثر، و(مُوسَى بْن أَنَسٍ) ابن مالكٍ، قاضي البصرة التَّابِعِيُّ المشهور، ثقةٌ، حديثه في الكتب السِّتَّة، وكان وُلِّي القضاء بالبصرة في ولاية الحكم بن أيُّوب الثَّقَفيِّ، و(القَاسِم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ابن عبد الله بن مسعودٍ، وكان على قضاء الكوفة زمن عُمَر بن عبد العزيز ☺ ، وكان لا يأخذ على / القضاء أجرًا، وكان ثقةً صالحًا مِنَ التَّابِعينَ، لقيَ جابر بن سَمُرَة، قيل: إنَّهُ مات سنة ستَّ عشرةَ ومئةٍ.
          قوله: (فَأَجَازَهُ) بالجيم؛ أي: أمضاه وعمل، وفي «مُغني الحنابلة»: يُشتَرَط في قول أئِمَّة الفتوى أن يشهد بكتاب القاضي إلى القاضي شاهدان عدلان، ولا يكفي معرفته خطَّ القاضي وختمه، وحُكِي عن الحسن وسوَّار والحسن العنبريِّ أنَّهم قالوا: إذا كان يعرف خطَّه وختمه قَبِله، وهو قول أبي ثورٍ أيضًا، وفي «التوضيح»: واختلفوا إذا أشهد القاضي [شاهدين على كتابه ولم يقرأه عليهما ولا عرَّفهما بما فيه، فقال مالكٌ: يجوز ذلك ويلزم القاضي] المكتوب إليه قبوله بقول الشاهدين: هذا كتابه دفعه إلينا مختومًا، وقال أبو حنيفة والشافعيُّ وأبو ثورٍ: إذا لم يقرأه عليهما القاضي ولم يحرِّره؛ لم يعمل القاضي المكتوب إليه بما فيه، ورُوي عن مالكٍ مثله، واختلفوا إذا انكسر ختم الكتاب، فقال أبو حنيفة وزُفَر: لا يقبله الحاكم، وقال أبو يوسف: يقبله ويحكم به إذا شهدت به البيِّنة، وبه قال الشافعيُّ.
          (ص) وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلَابَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا.
          (ش) (الْحَسَنُ) هو البَصْرِيُّ، و(أَبُو قِلَابَة) بكسر القاف وتخفيف اللَّام، هو عبد الله بن زيدٍ الجَرْميُّ؛ بفتح الجيم وسكون الراء.
          قوله: (أَنْ يَشْهَدَ) بفتح الياء، وفاعله محذوفٌ تقديره: أن يشهد أحدٌ على وصيَّةٍ... إلى آخره.
          قوله: (جَوْرًا) بفتح الجيم، وهو في الأصل: الظلم، والمراد به هنا: غير الحقِّ، وقال الداوديُّ: هذا هو الصواب الذي لا شكَّ فيه أنَّهُ لا يشهد على وصيَّة حَتَّى يعلم ما فيها، وتعقَّبه ابن التين فقال: لا أدري لِمَ صوَّبه؟ وهي إن كان فيها جورٌ يوجِب الحكم ألَّا يُمْضي لا يُمضي، وإن كان يوجب الحكم إمضاءه يُمْضي، ومذهب مالكٍ: جواز الشهادة على الوصيَّة وإن لم يعلم الشاهد ما فيها.
          (ص) وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلعم إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: «إمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وإمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ».
          (ش) هذا قطعةٌ مِن حديث سهل بن أبي حَثْمَة في قصَّة حُوَيِّصَة ومُحَيِّصَة وقَتْلِ عبد الله بن سهلٍ بخيبر، وسيأتي هذا بعد عدَّة أبوابٍ في (باب كتاب الحاكم إلى عمَّاله).
          قوله: (إمَّا أَنْ تَدُوا) أي: إمَّا أن تُعطوا الدِّية، وهو مِن وَدَى يدي؛ إذا أعطى الدِّية، وأصل (تَدُوا) (تَوْدِيُوا) فحُذِفَت الواوُ _التي هي فاء الفعل_ في المفرد لوقوعها بين الياء والكسرة، ثُمَّ حُذِفَت في التثنية والجمع تبعًا للمفرد، ثُمَّ نُقِلَت ضمَّةُ الياء إلى الدَّال فالتقى ساكنان؛ وهما الياء والواو، فحُذِفَت الياء، ولم تُحذف الواو؛ لأنَّه علامة الجمع، فصار على وزن (تَعُوا).
          (ص) وَقَالَ الزُّهْريُّ فِي شَهَادَةٍ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ، وَإِلَّا فَلَا تَشْهَدْ.
          (ش) أي: قال مُحَمَّد بن مسلمٍ ابن شهابٍ الزُّهْريُّ في حكم الشهادة على المرأة: إن عرفها الشاهد يشهد لها وعليها، وإن لم يعرفها فلا يشهد.
          قوله: (فِي شَهَادَةٍ) ويروى: <في الشهادة> بالألف واللَّام.
          قوله: (مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ) إمَّا بالتنقُّب وإمَّا بغير ذلك، وحاصله: أنَّهُ إذا عرفها بأيِّ طريقٍ كان يجوز الشهادة عليها، ولا يُشْتَرط أن يراها حال الإشهاد.
          وأثر الزُّهْريِّ هذا وصله ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق جعفر بن برقان عنه، ومذهب مالكٍ: جواز شهادة الأعمى في الإقرار وفي كلِّ ما طريقه الصوت، سواءٌ عنده تحمَّلها أعمى أو بصيرًا ثُمَّ عمي، وقال أبو حنيفة والشافعيُّ: لا تُقبَل إذا تحمَّلها أعمى، ودليل مالكٍ: أنَّ الصحابة والتَّابِعينَ رَوَوا عن أمَّهات المؤمنين مِن وراء حجابٍ وميَّزوا أشخاصهنَّ بالصوت، وكذا أذان ابن أمِّ مكتومٍ، ولم يفرِّقوا بين ندائه ونداء بلالٍ إلَّا بالصوت، ولأنَّ الإقدام على الفروج أعلى مِنَ الشهادة بالحقوق، والأعمى له وطء زوجته وهو لا يعرفها إلَّا بالصوت، وهذا لم يمنع منه أحدٌ.