عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزروع والأمتعة
  
              

          ░33▒ (ص) بابٌ: هَلْ يَدْخُلُ فِي الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ الأَرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُوعُ وَالأَمْتِعَةُ؟
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه: هل يدخل في الأَيْمان... إلى آخره؛ يعني: هل يصحُّ اليمين والنذر على الأعيان؟ فصورة اليمين نحو قوله عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام: «والذي نفسي بيده؛ إنَّ هذه الشملة لتشتعل عليه نارًا» وصورة النذر مثل أن يقول: هذه الأرض للهِ نذرًا، ونحوه، وقال المُهَلَّب: أراد البُخَاريُّ بهذا أن يُبيِّن أنَّ «المال» يقع على كلِّ مُتملَّكٍ، ألا ترى قول عمر ☺ : أصبتُ أرضًا لم أصِبْ مالًا قطُّ أنفسَ منه، وقول أبي طلحة: أحبُّ الأموال إليَّ بيرحاء، وهم القدوة في الفصاحة ومعرفة لسان العرب؟ وقال صاحب «التوضيح»: أراد البُخَاريُّ بهذا الردَّ على أبي حنيفة، فَإِنَّهُ يقول: إنَّ مَن حلف أو نذر أن يتصدَّق بماله كلِّه؛ فَإِنَّهُ لا يقع يمينه ونذره مِنَ الأموال إلَّا على ما فيه الزكاة خاصَّةً انتهى.
          قُلْت: قد كثُر اختلافهم في تفسير (المال) حيث قال ابن عبد البرِّ وآخرون: إنَّ المال في لغة دَوْس _قبيلة أبي هُرَيْرَة_ غير العين؛ كالعروض والثياب، وعند جماعةٍ: المال هو العين؛ كالذهب والفضَّة خاصَّةً، وحكى المُطَرِّز أنَّ المال هو الصامت _كالذهب والفضَّة_ والناطق، وحكى القاليُّ عن ثعلبٍ أنَّهُ قال: المالُ عند العرب أقلُّه ما تجب فيه الزكاة، وما نقص عن ذلك فلا يُقال له: مالٌ، وقال ابن سِيدَه في «العَويص»: العربُ لا توقِعُ اسمَ المال مطلقًا إلَّا على الإبل؛ لشرفها عندهم، وكثرة غنائها، قال: وربَّما أوقعوه على أنواع المواشي كلِّها، ومنهم مَن أوقعه على جميع ما يملكه الإنسانُ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}[النساء:5] فلم يخصَّ شيئًا دون شيءٍ، وهو اختيار كثيرٍ مِنَ المتأخِّرين، فلمَّا رأى البُخَاريُّ هذا الاختلافَ أشار إلى أنَّ (المال) يقع على كلِّ مُتملَّكٍ، كما حكى عنه المُهَلَّب كما ذكرناه الآن، فتبيَّن مِن ذلك أنَّهُ اختار هذا القول، فلا حاجة إلى قول صاحب «التوضيح»: إنَّهُ أراد به الردَّ على أبي حنيفة؛ لأنَّه اختار قولًا مِنَ الأقوال، فكذلك اختار أبو حنيفة قولًا مِنَ الأقوال، فلا اختصاصَ بذكر الردِّ عليه خاصَّةً، ولكن عَرقٌ مِنَ العَصَبيَّة الباطلة نزعه إلى ذلك!
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ ☺ لِلنَّبِيِّ صلعم : أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا».
          (ش) ذكر هذا إشارةً إلى أنَّ الأرض يُطلَق عليها (المال)، وهذا التعليق ذكره البُخَاريُّ في (كتاب الوصايا) موصولًا.
          قوله: (حَبَّسْتَ) أي: وقفتَ، وقد مرَّ الكلام فيه هناك.
          (ص) وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صلعم : أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ.
          (ش) ذكر هذا التعليقَ أيضًا عن (أَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهلٍ الأنصاريِّ، إشارةً إلى أنَّ الحائط _الذي هو البستان مِنَ النخل_ يُطلَق عليه المال، وقد تَقَدَّمَ هذا موصولًا / في (باب الزكاة على الأقارب).
          قوله: (إِلَيَّ) بتشديد الياء.
          قوله: (بَيْرُحَاءُ) قد مرَّ ضبطه هناك.
          قوله: (لِحَائِطٍ) اللام فيه لام التبيين؛ كما في نحو: {هَيْتَ لَكَ}[يوسف:23] أي: هذا الاسمُ لحائطٍ.
          قوله: (مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ) أي: مقابِلَه، وتأنيثه باعتبار (البقعة).