عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}
  
              

          ░9▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}[الأنعام:109].
          (ش) أي: هذا بابٌ في قولِ الله تعالى: ({وَأَقْسَمُوا}) هذه الآية الكريمة في (الأنعام) وبعدها: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} الآية[الأنعام:109] وفي (سورة النور) : {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} الآية[النور:53] وقال الثعلبيُّ: الآية الأولى نزلت في قريش، قالوا: يا مُحَمَّد؛ تخبرنا عن موسى كان معه العصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا، وتخبرنا عَن عيسى أنَّهُ يُحيِي الموتى، وتخبرنا أنَّ ثمود كانت لهم ناقة، فائتِنا بشيء مِنَ الآيات حَتَّى نصدِّقك... الحديث بطوله، فأنزل الله تعالى: ({وَأَقْسَمُوا بِاللهِ}) أي: حلفوا بالله ({جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}) أي: بجهد أيمانهم؛ يعني: بكلِّ ما قدروا عليه مِنَ الأيمان وأشدِّها: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} كما جاء من قبله مِنَ الأمم {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، والآية الثانية: نزلت في المنافقين، كانوا يقولون لرسول الله صلعم : أينما كنتَ نكن معك، إن أقمتَ أقمنا، وإن خرجتَ خرجنا، وإن جاهدت جاهدنا معك، فقال الله تعالى: {قُلْ} لهم: {لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ}[النور:53] بالقول واللسان دون الاعتقاد، فهي معروفة منكم بالكذب أنَّكم تكذبون فيها، قاله مجاهد، وقال المُهَلَّب: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} دليلٌ على أنَّ الحلف بالله أكبر الأيمان كلِّها؛ لأنَّ الجهد شِدَّة المشقَّة.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ ☺ : فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا، قَالَ: «لَا تُقْسِمْ».
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيث إنَّ فيها إنكارَ قسَمِ المنافقين؛ لكذبهم في أَيمانهم، وفي حديث ابن عَبَّاسٍ إنكارٌ للقسَمِ الَّذي أقسَم به أبو بكرٍ ☺ ، ولكنَّ الفرق ظاهرٌ بين القسَمَين، وهو مِن حديثٍ مُطوَّلٍ ذكره البُخَاريُّ مُسنَدًا في (كتاب التعبير) في (باب مَن لم يرَ الرؤيا لِأَوَّل عابرٍ).
          قوله: (فِي الرُّؤْيَا) أي: في تعبير الرُّؤيا.
          قوله: (لَا تُقْسِمْ) نهيٌ عنِ القسَمِ.
          فَإِنْ قُلْتَ: أمرَ صلعم بإبرار المُقسِم؛ كما يجيء الآن، فلِمَ ما أبرَّه؟
          قُلْت: ذلك مندوبٌ عند عدمِ المانع، وإنَّما كان له عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مانعٌ منه، وقال ابنُ المنذر: أمرُ الشارع بإبرار المُقسِم أمرُ ندبٍ لا وجوبٍ؛ لأنَّ الصِّدِّيق ☺ أقسَم على رسولِ الله صلعم فلَم يبرَّ قسَمَه، ولو كان ذلك واجبًا لأبرَّه، وقال المُهَلَّبُ: إبرار القسم إِنَّما يُستحَبُّ إذا لم يكن في ذلك ضررٌ على المحلوف عليه، أو على جماعةِ أهلِ الدين؛ لأنَّ الذي سكت عنه رسولُ الله صلعم مِن بيان موضعِ الخطأ في تعبير الصِّدِّيق هو عائدٌ على المسلمين، / وسيجيء إيضاحُ ذلك في (التعبير) في الباب المذكور.