عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}
  
              

          ░1▒ (ص) باب قَوْلِه تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ / ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المائدة:89].
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذِكرِ قولِهِ تعالى، هكذا وَقَع في بعض النُّسَخ، ولم يقع لفظ: (باب) عند أكثر الرواة، وذكرُ الآية كلِّها إِنَّما هو في رواية كريمة.
          قوله: ({بِاللَّغْوِ}) هو قولُ الرجل في الكلام مِن غير قصدٍ: لا والله، وبلى والله، هذا مذهب الشَّافِعِيِّ، وقيل: هو في الهزل، وقيل: في المعصية، وقيل: على غلبة الظَّنِّ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقيل: اليمين في الغضب، وقيل: في النسيان.
          قوله: ({بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}) أي: بما صمَّمتم عليه مِنَ الأيمان وقصدتموها، قُرِئَ بتشديد القاف وتخفيفها، و(العقد) في الأصل: الجمعُ بين أطراف الشيء، ويُستَعمَل في الأجسام، ويستعار للمعاني؛ نحو: عقد البيع، وعَن عطاءٍ: معنى {عَقَّدْتُم الأيمانَ} أَكَّدتم.
          قوله: ({مَسَاكِينُ}) أي: محاويج مِنَ الفقراء ومَن لا يجد ما يكفيه.
          قوله: ({مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}) قال ابن عَبَّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ وعِكرمة: مِن أعدلِ ما تطعمون أهليكم، وقال عطاءٌ الخراسانيُّ: مِن أمثلِ ما تطعمون أهليكم، وقال ابن أبي حاتم بإسناده عَن عليٍّ ☺ قال: خبزٌ ولبنٌ وسمن، وبإسناده عَن ابنِ عُمَر ☻ أنَّهُ قال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: الخبز واللحم والسَّمن، والخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والخلُّ، واختلفوا في مقدارِ ما يطعمهم؛ فقال ابن أبي حاتم بإسناده عَن عليٍّ ☺ قال: يُغدِّيهم ويعشِّيهم، وقال الحسن ومُحَمَّد بن سِيرِين: يكفيه أن يطعمَ عشَرة مساكين أكلةً واحدة خبزًا ولحمًا، وزاد الحسن: وإن لم يجد فخبزًا وسمنًا ولبنًا، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخَلًّا، حَتَّى يشبَعوا، وقال قومٌ: يطعم كلُّ واحدٍ مِنَ العشرة نصف صاعٍ مِن بُرٍّ أو تمر ونحوهما، وهذا قول عمر وعليٍّ وعائشة ومجاهد والشعبيِّ وسعيد بن جُبَير وإبراهيم النَّخَعِيِّ ومنصور بن مِهْرَان وأبي مالك والضحَّاك والحكَم ومكحول وأبي قِلَابَة ومقاتل بن حيَّان، وقال أبو حنيفة ☺ : نصف صاعٍ مِن برٍّ، أو صاع مِن غيره، وهو قول مجاهدٍ ومُحَمَّد بن سِيرِين والشعبيِّ والثَّوْريِّ والنخعيِّ وأحمد، ورُوِيَ ذلك عَن عليٍّ وعائشة ☻، وقال الشَّافِعِيُّ: الواجب في كفَّارة اليمين مُدٌّ بمدِّ النَّبِيِّ صلعم .
          قوله: ({أَوْ كِسْوَتُهُمْ}) قال الشَّافِعِيُّ: لو دفع إلى كلِّ واحدٍ مِنَ العشرة ما يصدُقُ عليه اسمُ الكسوة مِن قميصٍ أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة؛ أجزأه ذلك، واختلف أصحابه في القَلَنسوة؛ هل تجزئ أم لا؟ على وجهين، وحكى الشيخ أبو حامد الإسفرايِنيُّ في الخُفِّ وجهين أيضًا، والصحيحُ عدمُ الإجزاء، وقال مالكٌ وأحمد: لا بدَّ أن يدفعَ إلى كلِّ واحدٍ منهم ما يصحُّ أن يصلِّي فيه إن كان رجلًا أو امرأة، كلٌّ بحسبه، وقال العَوفيُّ عن ابن عَبَّاسٍ: عباءة لكلِّ مسكين أو شَملة، وقال مجاهدٌ: أدناه ثوبٌ وأعلاه ما شئت، وعن سعيد بن المُسَيَِّبِ: عباءة يلفُّ بها رأسه، وعباءة يلتف بها.
          قوله: ({أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}) أخذ أبو حنيفة ☺ بإطلاقها فجوَّز الكافرة، وقال الشَّافِعِيُّ ☺ وآخرون: لا يجوز إلَّا مؤمنة.
          قوله: ({فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}) أي: وإن لم يقدر المكلَّف على واحدة مِن هذه الخصال الثلاث ({فَصِيَامُ}) أي: فعليه صيامٌ ({ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}) واختلفوا فيه؛ هل يجب التتابع أو يستحبُّ؟ فالمنصوص عَنِ الشَّافِعِيِّ: أنَّهُ لا يجب التتابع، وهو قول مالكٍ، وقال أبو حنيفة وأحمد: يجب التتابع، ودلائلهم مذكورة في كتب الفقه.
          قوله: ({ذَلِكَ}) إشارة إلى المذكور قبله.
          قوله: ({وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}) عَنِ الحنث، فإذا حنثتم فاحفظوها بالكفَّارة.