عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب لبس القسي
  
              

          ░28▒ (ص) باب لُبْسِ الْقَسِّيِّ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان لبس الثوب القَسِّيِّ؛ بفتح القاف وتشديد السين المُهْمَلة المكسورة وتشديد الياء، وقال الكَرْمانيُّ: «القَسِّيُّ» منسوب إلى بلد يقال لها: القسُّ.
          قُلْت: (القسُّ) كانت بلدة على ساحل البحر الملح بالقرب مِن دمياط، كان يُنسج فيها الثيابُ مِنَ الحرير، واليوم خراب، وقال أبو عُبَيد: وأصحاب الحديث يقولون: القِسِّيُّ؛ بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها، وقال ابن سِيدَه: القَسُّ والقِسُّ موضعٌ يُنسب إليه ثيابٌ تُجلب مِن نحو مِصر، وذكر الحسن بن مُحَمَّد المُهَلَّبيُّ المصريُّ: أنَّ القِسَّ لسانٌ خارج مِنَ البحر، عنده حصنٌ يسكنه الناس، بينه وبين الفَرْما عشرةُ فراسخ مِن جهة الشام.
          قُلْت: (الفَرْما) [...].
          وقال الكَرْمانيُّ: قيل: إنَّهُ القزِّيُّ؛ بالزاي موضع السين، مِنَ القزِّ الذي هو غليظُ الإبريسم ورديئُه، وفي «التوضيح»: القِسُّ قرية مِن تِنِّيس؛ بكسر التاء المُثَنَّاة مِن فوق وتشديد النون المكسورة وسكون الياء آخر الحروف وبسين مُهْمَلة، بلدة كانت في / جزيرة بساحل بحر دمياط، وقد خربت، وفي «سنن أبي داود»: القِسُّ قريةٌ بالصعيد.
          (ص) وَقَالَ عَاصِمٌ: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: مَا الْقَسِّيَّةُ؟ قَالَ: ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنَ الشَّأْمِ أَوْ مِنْ مِصْرَ، مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ، وَفِيهَا أَمْثَالُ الأُتْرُنْجِ، وَالْمِيثَرَةُ كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا.
          (ش) (عَاصِمٌ) هو ابن كُلَيب الجَرْميُّ _بالجيم والراء_ مات سنة ثلاثين ومئة، [و(أَبُو بُرْدَةَ) بِضَمِّ الباء المُوَحَّدة، اسمه عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعريُّ]، و(عَلِيٌّ) هو ابن أبي طالب ☺ .
          وهذا التعليق طرفٌ مِن حديثٍ وصله مسلمٌ مِن طريق عبد الله بن إدريس: سمعتُ عاصم بن كُلَيب عَن أبي بُرْدَةَ _وهو ابن أبي موسى الأشعريِّ_ عن عليٍّ ☺ قال: نهاني رسول الله صلعم عَن لبس القسِّيِّ وعن المياثر، قال: فأَمَّا القسِّيُّ فثيابٌ مضلَّعة... الحديث.
          قوله: (أَتَتْنَا مِنَ الشَّأْمِ أَوْ مِنْ مِصْرَ) وفي رواية مسلم: مِن مصر والشام.
          قوله: (مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ) أي: فيها خطوطٌ عريضة كالأضلاع، وقال الكَرْمانيُّ: وتضليع الثوب جعل وشيه على هيئة الأضلاع غليظة معوجَّة.
          قوله: (الأُتْرُجِّ) بتشديد الجيم، ويقال له: (التُّرنج) أيضًا بتخفيف الجيم قبلها نونٌ ساكنة.
          قوله: (وَالْمِيثَرَةِ) بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف وبالثاء المُثَلَّثة، مِن الوثارة؛ وهي اللين، ووزنها (مِفْعَلة)، وأصلها (مِوْثَرة) قُلِبَت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها، ويُجمَع على (مياثر) و(مواثِر).
          قوله: (كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ) أي: لأزواجهنَّ، و(البُعُولة) جمع (بَعْل) وهو الزوج، توضع على السُّروج، تكون مِنَ الحرير وتكون مِنَ الصوف.
          قوله: (مِثْلُ الْقَطَائِفِ) جمع (قَطيفة) وهي الكِساء المُخمَل، وقيل: هي الدِّثار.
          قوله: (يُصَفِّرْنَهَا) مِنَ التصفير، ويُروى: <يَصُفُّونها> أي: يجعلونها كالصُّفَّة؛ أي: صفَّة السَّرج، قال أبو عُبَيد: هي كانت مِن مراكب الأعاجم مِن ديباجٍ أو حرير، وقال الهرويُّ: الميثرة مِرفقة تتخذ لصفة السرج، وكانوا يحمِّرونها، وفي «المحكم"» الميثرة الثوب يجلل بها الثياب فتعلوها، وقيل: هي أغشية السُّروج، تتَّخذ مِنَ الحرير، [وتَكون مِنَ الصوف وغيره، وقيل: هي شيءٌ كالفراش الصغير، يُتَّخذ مِنَ الحرير] ويحشى بقطن أو صوف، يجعلها الراكب على البعير تحته فوقَ الرَّحل.
          (ص) وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ: الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ، يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ، فِيهَا الْحَرِيرُ، وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ، قَالَ أَبُو عَبْدُ اللهِ: عَاصِمٌ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمِيثَرَةِ.
          (ش) اختلف الشُّرَّاح في جريرٍ هذا وفي شيخه؛ فقال الكَرْمانيُّ: «جَرِيرٌ» هذا بالجيم، هو ابن حازمٍ المذكور آنفًا؛ يعني: المذكور في سند الحديث الذي مضى قبل هذا الباب، وهو قوله: (حَدَّثَنَا وهب بن جَرير: حَدَّثَنَا أبي) وأبوه هو حازمٌ؛ بالحاء المُهْمَلة والزاي، وقال بعضهم: هو جَرير بن عبد الحميد، وأَمَّا شيخه فضَبَطَه الحافظ الدِّمْيَاطِيُّ ☼ بخطِّ يده على حاشية نسخته بِضَمِّ الباء المُوَحَّدة وفتح الراء، وهو بُرَيد بن عبد الله بن أبي بُرْدَةَ بن أبي موسى الأشعريُّ، وضبطه الحافظ المِزِّيُّ في «تهذيبه» بالياء آخر الحروف وقال: إنَّهُ يزيد بن أبي زياد القرشيُّ، وذكر أنَّ البُخَاريَّ روى له معلَّقًا، وروى له في (رفع اليدين والأدب)، وروى له مسلم مقرونًا بغيره، وأنَّ أحمد وابن مَعين ضعَّفاه، وأنَّ العِجْلِيَّ قال: هو جائز الحديث، وأنَّه كان بأَخَرةٍ يلقِّن، وقال الكَرْمانيُّ: و«يَزِيدُ» مِنَ الزيادة، ابن رومان _بِضَمِّ الراء وسكون الواو وبالميم والنون_ مولى آل الزُّبَير بن العوَّام، ونَسَب بعضُهم الوهم إلى الدِّمْيَاطِيِّ في ضبطه (بُرَيدة) بالباء المُوَحَّدة، وردَّ على الكَرْمانيِّ في ضبطه جَرير بن حازم، وفي ضبطه شيخه بأنَّه يزيد بن رومان، وادَّعى أنَّ جريرًا هو ابن عبد الحميد، وأنَّ شيخه هو يزيد بن أبي زياد، واعتمد فيما قاله على حديثٍ وصله إبراهيمُ الحربيُّ في «غريب الحديث» له عن عثمان ابن أبي شَيْبَةَ / عن جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن الحسن بن سهل قال: القسِّيَّة ثياب مُضَلَّعة... الحديث.
          قُلْت: كلٌّ مِنَ الحافظينِ المذكورينِ صاحب ضبطٍ وإتقان، فلا يُظَنُّ فيهما إلَّا أنَّهما حرَّرا هذا الموضع كما ينبغي، وأَمَّا الكَرْمانيُّ فَإِنَّهُ أيضًا لم يقل ما ذكره مِن عند رأيه، ولم يكن إلَّا وقف على نسخةٍ معتمدةٍ أو على كتابٍ مِن هذا الفنِّ، ومع هذا الاحتمالُ باقٍ في الكلِّ، والله أعلم.
          قوله: (وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ) هذا لا يوجد إلَّا في بعض نسخ البُخَاريِّ، وقال النوويُّ: تفسير «الميثرة» بـ«الجلود» قولٌ باطلٌ مخالفٌ للمشهور الذي أطبق عليه أهلُ الحديث، وقال الكَرْمانيُّ: جلود السباع لم تكن منهيَّةً، وأجاب بقوله: إمَّا أن يكون فيها الحرير، وإمَّا أن يكون مِن جهة إسرافٍ فيها، وإمَّا لأنَّها مِن زيِّ المترفين، وكان كفَّار العَجَم يستعملونها.
          قوله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) هو البُخَاريُّ نفسه.
          قوله: (عَاصِمٌ أَكْثَرُ) أي: رواية عاصم بن كليب المذكور أكثرُ طرقًا وأصحُّ مِن رواية يزيد المذكور، وهذا _أعني: قوله: وقال أبو عبد الله... إلى آخره_ لم يقع في رواية أبي ذرٍّ ولا في رواية النَّسَفِيِّ.