عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب العمائم
  
              

          ░15▒ (ص) باب الْعَمَائِمِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ فيه ذِكْرُ العمائم؛ وهو جمع (عِمامة)، وعَمَّمْتُه: ألبستُه العِمامة، وعُمِّم الرَّجلُ: سُوِّدَ؛ لأنَّ العمائم تيجانُ العرب؛ كما قيل في العجم: تُوِّجَ، و(اعتمَّ بالعِمامة) و(تَعمَّم بها) بمعنًى.
          ولم يذكر البُخَاريُّ في هذا الباب شيئًا من أمور العِمامة، فكأنَّه لم يثبت عنده على شرطه في العِمامة شيء، وفي كتاب «الجهاد» لابن أبي عاصم: حَدَّثَنَا أبو موسى: حَدَّثَنَا عثمان بن عُمَر عن الزُّبَير بن جوان عن رجلٍ من الأنصار قال: جاء رجلٌ إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرَّحْمَن؛ العِمامة سُنَّةٌ؟ فقال: نعم، قال رسول الله صلعم لعبد الرَّحْمَن بن عوف: «اذهب فاسدل عليك ثيابك، والبَس سلاحَك» ففعل ثُمَّ أتى النَّبِيَّ صلعم ، فقبض ما سَدَلَ بنفسِه ثُمَّ عمَّمَه، فسدل مِن بين يديه ومِن خلفه، وقال ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الحسن بن عليٍّ: حَدَّثَنَا ابن أبي مريم عن رِشْدين عن عُقَيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أنَّ رسول الله صلعم عمَّم عبد الرَّحْمَن بن عوف بعَمامةٍ سوداءَ مِن قُطْنٍ، وأفضل له مِن بين يديه مثل هذه، وفي روايةٍ عن نافع عن ابن عمر قال: عمَّم رسولُ الله صلعم ابنَ عوف بعِمامة سوداءَ كرابيس، وأرخاها من خلفه قَدْرَ أربعَ أصابع، وقال: «هكذا فاعتمَّ»، وقال مالك: العِمَّة والاحتباء والانتِعال مِن عَمَلِ العرب، وسُئل مالكٌ عن الذي يعتمُّ بالعِمامة ولا يجعلها مِن تحت حلقه، فأنكرها، وقال: ذلك مِن عَمَل النَّبَط، وليست مِن عِمَّة الناس إلَّا أن تكون قصيرةً لا تبلغ، أو يفعل ذلك في بيته أو في مرضه؛ فلا بأس به، قيل له: فيُرْخِي بين الكَتِفَين؟ قال: لم أرَ أحدًا مِمَّن أدركتُه يُرْخِي بين كتفيه إلَّا عامر بن عبد الله بن الزُّبَير، وليس ذلك بحرامٍ، ولكن يُرسُلها بين يديه، وهو أجمل، وروى أبو داود من حديث الحسن بن عليٍّ ☻ قال: رأيتُ النَّبِيَّ صلعم على المنبر وعليه عِمامةٌ سوداءُ قد أرخى طرفها بين كتفيه، وروى التِّرْمِذيُّ من حديث ابن عمر: كان النَّبِيُّ صلعم إذا اعتمَّ سدل عِمامته بين كتفيه، قال نافع: وكان ابن عمر يفعله، وقال عُبَيد الله بن عُمَر: رأيتُ القاسمَ وسالمًا يفعلان ذلك، وروى الطَّبرانيُّ في «الأوسط» من حديث ثوبان ☺ : أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان إذا اعتمَّ أرخى عِمامته بين يديه ومِن خلفه، وفيه: الحَجَّاج بن رِشْدين، وهو ضعيفٌ، وفي حديث أبي عُبَيدةَ الحِمصيِّ عن عبد الله بن بُسْرٍ: بعث رسولُ الله صلعم عليَّ بن أبي طالب ☺ يومَ خيبر، فعمَّمه بعِمامةٍ سوداءَ أرسلها مِن ورائه وعن مَنْكبِه اليسرى.
          وقال شيخنا زين الدين ☼: إذا وقع إرخاء العَذَبَة مِن بين اليدين _كما يفعله طائفة الصوفيَّة وجماعةٌ من أهل العلم_ فهل المشروعُ فيه إرخاؤها مِنَ الجانب الأيسر؛ كما هو المعتاد، أو إرسالها مِنَ الجانب الأيمن لشرفه؟ ولم أرَ ما يدلُّ على تعيين الجانب الأيمن إلَّا في حديث أبي أمامة، ولكنَّه ضعيفٌ، وحديث أبي أمامة رواه الطَّبرانيُّ في «الكبير» من رواية جُمَيع بن ثوب عن أبي سفيان الرُّعَينيِّ عن أبي أمامة قال: كان رسول الله صلعم لا يُوَلِّي واليًا حَتَّى يعمِّمه، ويُرخي لها مِن جانبِ الأيمنِ نحو الأُذُن، وجُمَيع بن ثوب ضعيفٌ، وقال شيخنا: وعلى تقدير ثبوته؛ فلعلَّه كان يُرخيها من الجانب الأيمن ثُمَّ يردُّها من الجانب الأيسر؛ كما يفعله بعضهم، إلَّا أنَّهُ شعار الإماميَّة، وقال: ما المرادُ بسدل عِمامته بين كتفيه؟ هل المراد سَدْلُ الطَّرف [الأسفل حَتَّى / تكون عَذبَةً؟ أو المراد سَدْلُ الطرف] الأعلى بحيث يغرزها ويرسل منها شيئًا خلفه؟ يَحتمِلُ كلًّا من الأمرين، ولم أرَ التصريحَ بكون المُرخَى من العِمامة عَذبَةً إلَّا في حديث عبد الأعلى بن عَدِيٍّ، رواه أَبُو نُعَيْم في «معرفة الصحابة» من رواية إسماعيل بن عَيَّاش عن عبد الله بن بُسْر عن عبد الرَّحْمَن بن عَدِيٍّ البَهرانيِّ عن أخيه عبد الأعلى بن عَدِيٍّ: أنَّ رسول الله صلعم دعا عليَّ بن أبي طالب ☺ يوم غدير خُمٍّ، فعمَّمه وأرخى عذبة العِمامة مِن خلفه، ثُمَّ قال: «هكذا فاعتمُّوا؛ فإنَّ العَمائم سيماءُ الإسلام، وهي حاجزٌ بين المسلمين والمشركين»، وقال الشيخ: مع أنَّ «العَذَبةَ» الطَّرف؛ كعَذَبة السُّوط، وعَذَبة اللِّسان؛ أي: طَرَفه، فالطرف الأعلى يُسمَّى عَذَبة مِن حيث اللُّغة وإن كان مخالفًا للاصطلاح العُرفيِّ الآن، وفي بعض طرق حديث ابن عمر ما يقتضي أنَّ الذي كان يرسله بين كتفيه مِنَ الطرف الأعلى، رواه أبو الشيخ وغيره مِن رواية أبي عبد السلام عن ابن عمر ☻ قال: قلت لابن عمر: كيف كان رسول الله صلعم يعتمُّ؟ قال: كان يُديرُ كُورَ العِمامة على رأسه، ويغرزها من ورائه، ويُرخي له ذُؤَابَةً بين كَتِفيه.