عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب مرض النبي ووفاته
  
              

          ░83▒ (ص) بابُ مَرَضِ النَّبِيِّ صلعم وَوَفَاتِهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ مرض النَّبِيِّ صلعم وبيانِ وقت وفاته، ولا خلافَ أنَّهُ صلعم تُوُفِّي يومَ الاثنين، وروى الإمامُ أحمدُ مِن حديث عائشةَ قالت: (تُوُفِّيَ رسول الله صلعم يوم الاثنين، ودُفِنَ ليلة الأربعاء) وتفرَّد به، وعن عروة: (تُوُفِّيَ يوم الاثنين حين زاغتِ الشمس لهلال ربيع الأَوَّل)، وعنِ الأوزاعيِّ: تُوُفِّي يوم الاثنين قبل أن ينشب النَّهار، وفي حديث أبي يَعْلَى بإسناده عن أنسٍ: أنَّهُ تُوُفِّي آخِر نهارِ يومِ الاثنين، وروى البَيْهَقيُّ بإسنادِهِ عن سُلَيمان بن طَرْخَان التَّيميِّ في (كتاب المغازي) قال: مرضَ النَّبِيُّ صلعم لاثنينِ وعشرين ليلةً مِن صفر، وبدأ وجعُه عندَ وليدةٍ له يقال لها: ريحانة، كانت من سَبْيِ اليهود، وكان / أَوَّل يوم مَرِض يومَ السبت، وكانت وفاتُه يوم الاثنين لليلتينِ خَلَتا من شهر ربيع الأَوَّل لتمام عشر سنين مِن مَقْدَمِهِ المدينةَ، وقال الواقديُّ: حَدَّثَنَا أبو مَعشَر عن مُحَمَّد بن قيس قال: اشتكى رسول الله صلعم يوم الأربعاء لإحدى عشرةَ ليلةً بقيت من صفرَ سنة إحدى عشرةَ في بيتِ زينب بنت جَحْش شكوى شديدةً، فاجتمعت عنده نساؤه كلُّهنَّ، فاشتكى ثلاثةَ عشرَ يومًا، وتُوُفِّي يوم الاثنين لِليلتينِ خَلَتا مِن ربيع الأَوَّل سنة إحدى عشْرةَ، وقال الواقديُّ: قالوا: بُدِئَ برسول الله صلعم يوم الأربعاء لِليلتينِ بقيتَا مِن صفر، وتُوُفِّي يوم الاثنين لثِنْتَي عشرةَ ليلةً مِن ربيع الأَوَّل، وبه جزم مُحَمَّد بن سعد كاتبه، وزاد: ودُفِنَ يومَ الأربعاء، وعن الواقديِّ مِن حديث أمِّ سلمة: أنَّهُ بُدِئ به في بيت ميمونة، وقال ابن إسحاق: تُوُفِّي لاثنتَي عشرةَ ليلةً خلت مِن ربيع الأَوَّل في اليوم الذي قدِمَ فيه المدينةَ مهاجرًا، وعن يعقوب بن سفيان عن ابن بُكَيرٍ عن اللَّيث أنَّهُ قال: تُوُفِّي رسول الله صلعم يوم الاثنين لليلةٍ خلت من ربيع الأَوَّل، وقال سعد بن إبراهيم الزُّهْريُّ: تُوُفِّي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأَوَّل، وقال أَبُو نُعَيْمٍ الفضل بن دُكَيْن: تُوُفِّي يوم الاثنين مُستَهلَّ ربيع الأَوَّل، وروى سيف بن عُمَر بإسناده عن ابن عَبَّاس قال: لمَّا قضى رسول الله صلعم حجَّة الوداع؛ ارتحل فأتى المدينةَ، وأقام بها ذا الحجَّة والمُحرَّم وصَفَرًا، ومات يوم الاثنين لعشرٍ خَلَونَ مِن ربيع الأَوَّل، وقالَ السهيليُّ في «الروض»: لا يُتصَوَّر وقوعُ وفاتِه صلعم يومَ الاثنين ثاني عشرَ ربيع الأَوَّل من سنة إحدى عشرةَ؛ وذلك لأنَّه صلعم وقف في حجَّة الوداع سنة عشرٍ يومَ الجمعة، وكان أَوَّلُ ذي الحجَّة يومَ الخميس، فعلى تقدير أن تُحسَبَ الشهورُ تامَّةً أو ناقصةً أو بعضُها تامٌّ وبعضُها ناقصٌ؛ لا يُتصَوَّر أن يكون يومُ الاثنين ثانيَ عَشَر ربيع الأَوَّل، وأُجِيبَ باختلاف المطالع؛ بأن يكونَ أهلُ مكَّة رأَوا هلال ذي الحجَّة ليلة الخميس، وأَمَّا أهلُ المدينة فلم يرَوه إلَّا ليلة الجمعة.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}[الزمر:30-31].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (مَرَضِ النَّبِيِّ صلعم ) والتقدير: وفي بيانِ قولِ اللهِ تعالى: ({إِنَّكَ مَيِّتٌ}...) إلى آخره.
          وجهُ ذكر هذه الآية جزءًا مِنَ الترجمة لأجل صحَّة الجزءِ الثاني من الترجمة التي هي قوله: (بابُ مرضِ النَّبِيِّ صلعم ووفاته) حَتَّى لا يُنكَرَ الموتُ على النَّبِيِّ صلعم ، وكيف يُنكَرُ وقد خاطب اللهُ نبيَّه صلعم بقوله: ({إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}) ؟! فأخبر اللهُ تعالى أنَّ الموتَ يعمُّهم، وكان مشركو قريش يتربَّصون برسول الله صلعم موته، فأخبر اللهُ أنْ لا معنى للتربُّص وأنزل: ({إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}) وقال قتادةُ: نعيتُ إلى رسول الله صلعم نفسَه، ونعيتُ إليكم أنفسكم.
          قوله: ({ثُمَّ إِنَّكُمْ}) أي: إنَّك وإيَّاهم، فغُلِّب ضميرُ المخاطب على ضمير الغيب: ({يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}) فتحتجُّ عليهم بأنَّك بلَّغت، ويعتذرون بما لا طائلَ تحته، يقول الأتباع: أطعنا سادتَنا وكُبرَاءنا، وتقول السَّادةُ: أغوتْنا الشياطينُ وآباؤنا الأقدمون.