عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب حديث بنى النضير
  
              

          ░14▒ (ص) باب حَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان (حَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ) بِفَتْحِ النُّون وَكَسْرِ الضَّاد الْمُعْجَمة، وهم قبيلةٌ مِن يهود الْمَدِينَة، وكان بينهم وبين رَسُول اللهِ صلعم عَقْدُ مُوَادَعَة، وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: قُرَيْظة والنَّضِير والنحَّام وعَمْرٌو _وهو هَدَل_ بَنو الْخَزْرَجِ بْنِ الصَّرِيحِ بْنِ التَّوْمانِ بْنِ السمط بْنِ الْيَسَع بْنِ سَعْد بْنِ لَاوي بْنِ خَيْر بْنِ النحَّام بْنِ تَنحوم بن عَازَرَ بْنِ عَزْرَاءَ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرانَ بْنِ يَصْهُر بن قَاهَث بْنِ لَاوي بْنِ يَعْقُوبَ، وَهُو إِسْرَائِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيم خَلِيلِ الرَّحْمَن ◙ .
          (ص) وَمَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ صلعم إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ، وَمَا أَرَادُوا مِنَ الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللهِ [ صلعم .
          (ش) (وَمَخْرَجِ) بالْجَرِّ عطف على (حديث بَنِي النَّضِيرِ) أَيْ: وفي بيان خُروجِ النَّبِيِّ]
صلعم ، وهو مصدرٌ ميميٌّ.
          قوله: (إِلَيْهِمْ) أي: إلى بَنِي النَّضِيرِ.
          قوله: (فِي دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ) كلمة (في) هنا للتعليل؛ أَيْ: كان خُروجه إِليهم بسبب ديَة الرَّجُلَيْنِ، وذَلِكَ كما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}[يُوسُف:32] وفي الْحَدِيث: «امْرَأَةٌ دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ»، وكان الرجلان الْمَذْكُوران مِن بني عَامِر، قاله ابن إِسْحَاق، وقَالَ ابنُ هِشَام: ثمَّ مِن بني كلاب، وذكر أبو عُمَر أنَّهما مِن بني سُلَيم، فخرجا مِنَ الْمَدِينَة، ونزلا في ظلٍّ فِيهِ عَمْرو بن أميَّة الضَّمْريُّ، وكان معهما عَقْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صلعم / وجِوارٌ، ولم يعلَم به عَمْرٌو، وقد سألهما حين نزلا: ممَّن أنتما؟ فقالا: مِن بني عَامِر، فأمهلهما حَتَّى إذا ناما؛ عَدا عليهما فقَتَلهما، ولمَّا قدم عَمْرٌو على النَّبِيِّ صلعم وأخبره؛ قال: «لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لأدِيَنَّهُمَا»، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِلَى بَنِي النَّضِيرِ مُسْتَعِينًا بِهِمْ فِي دِيةِ الْقَتِيلَيْنِ، قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِر حِلْفٌ وَعَقْدٌ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ نُعِينُك، ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُم بِبَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالهِ هَذِهِ، _ورَسُول اللهِ صلعم إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ_ فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فانْتَدَبَ لِذَلكَ عَمْرو بن جِحَاش _بِكَسْرِ الجيم، وتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْمَلة، وبالشِّين الْمُعْجَمة_ ابن كَعْبٍ أَحَدهم، فقال: أنا لذلك، فصعِدَ ليُلقيَ عليه صخرةً، وكان رَسُولُ اللهِ صلعم في نَفَرٍ فيهم أَبُو بَكْرٍ وعُمَر وعليٌّ، وزاد أَبُو نُعَيْمٍ: الزُّبَير، وطَلْحَة، وسَعْد بن مُعَاذ، وأُسَيْد بْنُ حُضَيْر، وسَعْد بن عُبَادَة، ♥ .
          قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: فأتى رَسُولَ اللهِ صلعم الْخَبَرُ مِن السَّماءِ بِما أَراد القومُ، فقام وخرج راجعًا إلى الْمَدِينَة، وهذا معنى قوله: (وَمَا أَرَادُوا) : أي: وفي بيانِ ما أراد بَنُو النَّضِيرِ من الغدْرِ برَسُول اللهِ صلعم ، وقَالَ ابنُ سَعْدٍ: خرج إليهم رَسُول اللهِ صلعم يستعينهم يوم السبت في شهر ربيع الأَوَّل، على رأس سبعة وَثَلَاثِينَ شهرًا مِن المهاجرة بعد غَزْوَة الرَّجِيع، وأنَّ ابن جِحَاش لمَّا همَّ مَا هَمَّ به؛ قال سَلام بن مِشْكَم: لا تَفعلوا، واللَّه؛ ليُخْبَرَنَّ بما هَمَمْتُم، وإِنَّهُ لنقضُ العهد بيننا وبينه، وبعث إليهم النَّبِيُّ صلعم مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَة: «أَنِ اخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، وَلَا تسألوني بِهَا، وَقَدْ هَمَمْتُم بِمَا هَمَمْتُم بِهِ مِن الْغَدْرِ، وَقَد أَجَّلتُكُم عَشْرًا، فَمَن رُئِيَ بَعد ذَلِكَ؛ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ» فَمَكَثُوا أَيَّامًا يَتَجَهَّزُونَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِم ابنُ أُبَيٍّ فَثَبَّطَهُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صلعم : أنَّا لا نَخْرُج، فَاصْنَع ما بَدَا لَكَ، فقال صلعم : «اللهُ أَكْبَرُ، حَارَبَتْ يَهُود» فخرج إليهم صلعم ، فاعتزلتهم قُرَيْظَة فلم تُعِنْهُم، وخَذَلَهُم ابنُ أُبَيٍّ وحُلَفَاؤهم من غَطَفان، فحاصرهم خمسة عشر يومًا، وقَالَ ابنُ الطَّلاع: ثلاثةً وَعِشْرِينَ يومًا، وعن عَائِشَة ♦: خمسة وَعِشْرِينَ يومًا، وقَالَ ابنُ سَعْدٍ: ثُمَّ أَجْلَاهُم، فَتَحَمَّلوا على ستِّ مئة بعير، وكانت صفيًّا له حُبْسًا لنوائبه، ولم يخمِّسها، ولم يُسهِم منها لأحد إلَّا لأَبِي بَكْرٍ، وعُمَر، وابن عَوْف، وصهيب بن سنان، والزُّبَير بن الْعَوَّامِ، وأبي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الأسد، وأبي دُجَانة، وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: فاحتملوا إلى خيبر وإلى الشام، قال: فحَدَّثَنِي عَبْد اللهِ بن أَبِي بَكْرٍ: أنَّهم خَلَّوا الأموال مِنَ الخيل والمزارع لرَسُول اللهِ صلعم خاصَّة، وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: لم يُسلِمْ منهم إلَّا يامين بن عُمَيْر وأَبُو سَعِيد بن وَهْبٍ، فأَحْرَزَا أَمْوَالَهُمَا.
          (ص) وَقَالَ الزُّهْريُّ عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَبْلَ أُحُدٍ.
          (ش) أي: قال مُحَمَّد بن مُسْلِم (الزُّهْريُّ) عَنْ (عُرْوَةَ) ابن الزُّبَير بن الْعَوَّامِ: كانت غَزْوَة بَنِي النَّضِيرِ على رأس ستَّة أشهر مِن وقعة غَزْوَة بَدْرٍ قبل غَزْوَة أُحُدٍ.
          وهذا التَّعْلِيق وَصَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي عَبْد اللهِ الأصبهانيِّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن جَهْم: حَدَّثَنَا مُوسَى بن المُسَاوِر: حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بن مُعَاذٍ عن مَعْمَرٍ عن الزُّهْريِّ به.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّل الْحَشْرِ}[الحشر:2]
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالْجَرِّ عطفًا على قوله: (وَمَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ، صلعم )، هذه الآية مِن (سورة الحشر)، قال ابن إِسْحَاق: أنزل اللَّه تَعَالَى هذه السورة بكمالها في بَنِي النَّضِيرِ، فِيهَا: ما أصابهم به مِن نقمتِه، وما سلَّط عليهم رسولَه، وما عَمِلَ به فِيهِم.
          قوله: ({لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}) أي: الجلَاء، وذَلِكَ أنَّ بَنِي النَّضِيرِ أَوَّلُ مَن / أُخرِج مِن ديارهم، وروى ابن مَرْدويه قصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ بإسنادٍ صحيحٍ مطوَّلًا، وَفِيهِ: أنَّهُ صلعم قاتلهم حَتَّى نزلوا على الجلاء، وكان جلاؤهم ذَلِكَ أَوَّلَ حشر الناس إلى الشام، وكذا رواه عبد بن حميد في «تَفْسِيره» عن عَبْد الرَّزَّاقِ، وَفِيهِ رَدٌّ على ابن التِّينِ؛ حيث إنَّه زعم أنَّهُ ليس في هذه القصَّة حديث بإسناد.
          (ص) وَجَعَلَهُ ابنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَأُحُدٍ.
          (ش) أي: جعل (مُحَمَّد بْنُ إِسْحَاق) صاحب «الْمَغَازِي» قتالَ بَنِي النَّضِيرِ بعدَ بِئْر مَعُونَةَ، وكانت بِئْر مَعُونَةَ في صفر من سَنَة أَرْبَعٍ مِنَ الهجرة، وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: أقام رَسُول اللهِ صلعم بعد أُحُد بقيَّة شوَّالَ وذا القَعْدَة وذَا الْحجَّة والمحرَّم، ثُمَّ بعث بأصحاب بِئْر مَعُونَةَ في صَفَر على رأسِ أربعةِ أشهرٍ مِن أُحُد، وقال مُوسَى بن عُقْبَةَ: كان أمير القوم المُنْذِر بن عَمْرو، ويقال: مرثد بن أَبِي مرثد، ووقع في رِوَايَة القابسيِّ: (وجعله إِسْحَاق) قال عِيَاض: وَهُو وَهم، والصَّوَابُ «ابن إِسْحَاق»؛ وهو: مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يَسَار، وقَالَ الكَرْمَانِيُّ: مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن نَصْر؛ بِفَتْحِ النُّون وسُكُون الصاد الْمُهْمَلة، وليس كذلك، والصواب: ابن يسار، وهو مشهورٌ ليس فِيهِ خَفاء.