عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد}
  
              

          ░20▒ (ص) باب {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[آل عِمْرَان:153]
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكر قَوْلِهِ تَعَالَى: ({إِذْ تُصْعِدُونَ}).
          قوله: ({إِذْ}) : نصب بقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}[آل عِمْرَان:152]، أو بقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ}[آل عِمْرَان:152]، أو بإضمار: اذكُرْ يا مُحَمَّد ({إِذْ تُصْعِدُونَ})، وهو مِنَ الإصعاد؛ وهو الذهابُ في الأَرْض والإبعادُ فِيهِ، يقال: صَعِدَ في الجَبَل، وأصعد في الأَرْض، يقال: أصعدنا مِن مكَّة إلى الْمَدِينَة، وقرأ الحسَنُ: {تَصْعَدُونَ} بِفَتْحِ التَّاء؛ يعني: في الجبل، قال الزَّمَخْشَريُّ: وتَعْضُدُ القراءةَ الأولى قراءةُ أُبَيٍّ: {تُصْعِدُونَ في الوادي}، وقرأ أبو حَيْوَة: {تَصَعَّدُونَ} بِفَتْحِ التَّاء وتَشْدِيد الْعَيْن، من تَصَعَّد في السلَّم، وقال المُفَضَّل: صَعد وأَصْعد وصعَّد بمعنًى.
          قوله: ({وَلَا تَلْوُونَ}) أي: ولا تُعرِّجون ولا تُقيمون ({عَلَى أَحَدٍ}) أَيْ: لا يلتفت بعضُكم على بعضٍ؛ هَرَبًا، وأصلُه مِن لَيِّ العنق في الالتفات، ثُمَّ استُعمِل في ترك التعريج، وقراءة الحسن: {تَلُونَ} بواو واحدة، وقال الزَّمَخْشَريُّ: وقُرِئَ: {يُصْعِدُونَ} وَ{يَلْوُوُنَ}، بالياء؛ يعني: فِيهِما.
          قوله: ({عَلَى أَحَدٍ}) قال الكلبيُّ: يعني: مُحَمَّدًا صلعم ، وقراءة عَائِشَة ♦: {عَلَى أُحُدٍ} بِضَمِّ الْهَمْزَة والْحَاء؛ يعني: الجَبَل.
          قوله: ({وَالرَّسُولُ}) الواو فِيهِ للحال.
          قوله: ({يَدْعُوكُمْ}) كَأَن يقول: إليَّ عَبَّاد اللَّه، إليَّ عَبَّاد الله، أنا رَسُول اللهِ، مَن يكرُّ؛ فله الجنَّة.
          قوله: ({فِي أُخْرَاكُمْ}) أي: مِن خلفكم، وقال الزَّمَخْشَريُّ: / في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهي الجماعة المتأخِّرة.
          قوله: ({فَأَثَابَكُمْ}) عطف على قوله: ({ثُمَّ صَرَفَكُمْ}) أي: فجازاكم الله غَمًّا حين صرفكم عَنْهم، وابتلاكم بسبب غمٍّ أذقتموه رَسُول اللهِ صلعم [بعصيانكم له، أو غَمًّا مُضَاعَفًا غَمًّا بعد غَمٍّ متَّصلًا بِغَمٍّ، مِنَ الاغتمام بما أرجف به مِن قِبَل رَسُول اللهِ صلعم ] والجرح، والقتل، وظفر الْمُشْرِكِينَ، وفوت الغنيمة والنصر، وقَالَ ابنُ عَبَّاس: الغَمُّ الأَوَّل: بسبب الهزيمة، وحين قيل: قُتِل مُحَمَّد، والثَّانِي: حين علاهم الْمُشْرِكُونَ فوق الجبل، رواه ابن مردويه، وروى ابن أَبِي حاتم عن قَتَادَة نحوَ ذلك، وقال السُّدِّيُّ: الغمُّ الأَوَّل بسبب ما فاتهم مِنَ الغنيمة والفتح، والغمُّ الثَّانِي بإشراف العدوِّ عليهم، وقيل غير ذلك.
          قوله: ({لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}) قيل: متَّصلٌ بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} مِنَ الْغَنِيمَةِ ({وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}) مِنَ الْقَتْلِ وَالْجرح؛ لأنَّ عَفْوَهُ يُذْهِبُ ذَلِكَ كُلَّه، وقيل: صِلَةٌ، فيكون المعنى: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، وَلَا مَا أَصَابَكُمْ عُقُوبَةً لَكُمْ فِي خِلَافِكُم، واللهُ خَبِيرٌ بِعَمَلِكُمْ كُلِّهِ.