عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب غزوة أحد
  
              

          ░17▒ (ص) بابُ غَزْوَةِ أُحُدٍ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان غَزْوَة أُحُدٍ، وليس في رِوَايَة أَبِي ذَرٍّ لفظ <باب>.
          كانت غَزْوَةُ أُحُدٍ في شوال سنة ثَلَاثٍ يوم السبت، لإحدى عشرة ليلة خلت منه عند ابن عائذ، وعند ابن سَعْدٍ: لسبع ليال خلون منه، على رأس اثنين وَثَلَاثِينَ شهرًا مِن مهاجره، وقال ابن إِسْحَاق: للنصف منه، وعند البَيْهَقيِّ عَنْ مَالِك: كانت بَدْرٌ لسنة ونصف مِنَ الهجرة، وأُحُدٌ بعدها بسنةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: <كانت على أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ شهرًا>.
          و(أُحُدٌ) جبل مِن جبال الْمَدِينَة، على أقلَّ مِن فرسخٍ منها، سُمِّي أُحُدًا؛ لتوحُّده وانقطاعه عن جبال أُخَرَ هناك، وقال السُّهَيْلِيُّ: وَفِيهِ قبر هارون بن عِمْرَان، وبه قُبِض، وكان هو وأخوه مُوسَى ♂ مرَّا به حاجَّين أو معتمرين، وفي الآثار المسندة: أنَّهُ يَوْم الْقِيَامَةِ عند باب الجنَّة مِن داخلها، وفي بعضها: أنَّهُ ركن لبابها، ذكره ابن سلَّام في «تَفْسِيره» وفي «المسند» مِنْ حَدِيثِ أبي عِيسَى بن جبر مرفوعًا: أُحُد جبل يحبُّنا ونحبُّه، وكان على باب الجنَّة، وقال السُّهَيْلِيُّ: ويقال لأُحُد: ذو عينين، و(عينان) تثنية (عين) ؛ جبل بأحد، وهو الَّذِي قام عليه إبليس _عليه اللعنة_ يوم أُحُد، وقال: إِنَّ سيَّدنا رَسُولَ اللهِ صلعم قد قُتِل، وبه أقام رَسُول اللهِ صلعم الرماةَ يوم أُحُد.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ ╡ : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عِمْرَان:121] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[آل عِمْرَان:139-143] وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عِمْرَان:152]، {وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا}... الآيَةَ[آل عِمْرَان:169].
          (ش) هذه الآياتُ كلُّها في (سورة آل عِمْرَان) كلُّها تتعلَّق بوَقْعَة أُحُد، وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: / أنزل الله تعالى في شأن أُحُد ستِّين آية في «آل عِمْرَان»، وروى ابن أَبِي حاتم مِن طريق الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قال: قلت لعَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف: أَخْبِرْنِي عَنْ قِصَّتِكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: اقْرَأ الْعِشْرِينَ وَمِئَةٍ مِن آلِ عِمْرَانَ تَجِدْهَا: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ...} إلى قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا}[آل عِمْرَان:121-154].
          قوله: (وَقَوْلِ اللهِ ╡ ) بالْجَرِّ عطفًا على قوله: (غَزْوَة أُحُدٍ).
          قوله: ({وَإِذْ غَدَوْتَ}) تقديره: اذْكُر يا مُحَمَّد حين غدوت؛ أَيْ: خرجت أَوَّل النهار مِن حجرة عَائِشَة ♦، واختُلِف في هذا اليوم الَّذِي عنى الله به؛ فعند الجمهور: الْمُرَاد به يومُ أحد، قاله ابن عَبَّاس والْحَسَن وقَتَادَة والسديُّ وغيرُ واحد، وعن الْحَسَن البِصْريِّ: الْمُرَاد بذَلِكَ يومُ الأحزاب، رواه ابن جرير، وهو غريب لا يعوَّل عليه، وقيل: يوم بَدْر، وهو أَيْضًا لا يعوَّل عليه، وكانت وَقْعة أُحُد يوم السبت مِن شوال سنة ثَلَاثٍ مِنَ الهجرة، وقال قَتَادَة: لإحدى عشرة ليلة خلت مِن شوَّال، وقال عِكْرِمَة: يوم السبت النصف مِن شوَّال، وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: وكانت إقامة رَسُول اللهِ صلعم بعد قدومه مِن غَزْوَة الفُرع مِن بَحْران جُمادى الآخرة ورجَبًا وشعبانَ وشهرَ رمضان، وغَزْوَة قريش _غَزْوَة أُحُدٍ_ في شوَّال سنة ثَلَاثٍ، وقال البلاذريُّ: لتسعٍ خَلَونَ مِن شوَّال، وقال مالكٌ: كانت الوقعة أَوَّل النهار، وهي الَّتِي أنزل اللَّه فِيهَا: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}... الآيات [آل عِمْرَان:121].
          قوله: ({تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}) أي: تُنزلهُم، ({مَقَاعِدَ}) أي: منازل، وتجعلهم ميمنة وميسرة. وقال الزَّمَخْشَريُّ: {مقاعد} أَيْ: مواطن ومواقف، وقُرِئ: {مَقَاعِدًا} بالتنوين.
          قوله: ({لِلْقِتَالِ}) أي: لأجل القتال مع الْمُشْرِكِينَ مِن قريش وغيرِهم، وكانوا قَرِيبًا مِن ثلاثة آلاف، ونزلوا قَرِيبًا من أُحُد تلقاء الْمَدِينَة، وكان قائدُهم أبا سُفْيَان، ومعه زوجتُه هندُ بنت عُتْبة بن رَبِيعَةَ، ومعهم الظَّعن؛ التماسَ الحفيظة، وكان خَالِد بن الْوَلِيد على ميمنة خيلهم، وعِكْرِمَة بن أَبِي جَهْلٍ على ميسرتهم، وقَالَ ابنُ سَعْدٍ: وجعلوا على الخيل صفوانَ بْنَ أميَّة، وقيل: عَمْرَو بْنَ العاص، وعلى الرُّماة عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي ربيعة، وكانوا مئة، وَفِيهِم سبع مئة دارع، والظعن خمسة عشر، وقَالَ ابنُ هِشَام: لمَّا خرج رَسُول اللهِ صلعم والْمُسْلِمُونَ يوم أُحُد؛ استعمل على الْمَدِينَة ابنَ أمِّ مكتوم على الصَّلَاة بالناس، وقال مُوسَى بن عُقْبَةَ: كانوا ألف رجل، فلمَّا نزل صلعم بأُحُد؛ رجع عَنْه عَبْد اللهِ بن أُبَيٍّ ابن سَلُول في ثلاث مئة، فبقي رَسُول اللهِ صلعم في سبع مئة، قال البَيْهَقيُّ: هذا هو المشهور عند أهل المغازي، قال: والمشهور عن الزُّهْريِّ: أنَّهم بقوا في أربع مئة مقاتل، ولم يكن معهم فرس واحد، وكان مع الْمُشْرِكِينَ مئةُ فرس، وقال الْوَاقِدِيُّ: وكان مع رَسُول اللهِ صلعم فَرَسان؛ فرس له صلعم وفرس لأبي بُرْدَةَ، وأمَّر رَسُول اللهِ صلعم على الرَّماة عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَير أخا بني عَمْرو بن عَوْف، وهم خمسون رجلًا، وقال: «لا يقاتلنَّ أحد حَتَّى نأمره بالقتال»، ثُمَّ جرى ما ذكره أهلُ السِّيَر.
          قوله: ({وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}) أي: سميع بما تقولون، عليم بضمائركم.
          قوله: (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) : بالْجَرِّ أَيْضًا عطفًا على: (قول الله ╡ ).
          قوله: ({وَلَا تَهِنُوا}) أي: ولا تَضْعُفُوا بسبب ما جرى، وهذا تسليةٌ مِنَ اللَّه لرسوله وللمؤمنين عمَّا أصابهم يوم أُحُد، وأصل: (لا تهنوا) : لا توهنُوا، حُذِفت الواو طردًا للباب؛ لِأنَّها حُذِفت في (يَهِن) أصله (يَوْهن) ؛ لوقوع الواو بين الْيَاء والكسرة، و(الوَهَن) الضعف، يقال: وَهَن يَهِن؛ بالكسر في المضارع، ويستعمل (وَهن) لازمًا ومتعدِّيًا، قال تَعَالَى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}[مريم:4]، وفي الْحَدِيث: «وَهَنَهُم حُمَّى يَثْرِبَ»، وقال الفَرَّاء: يقال: وهنه اللَّه وَأَوْهَنَه، زاد غيره: وَوَهَّنَه.
          قوله: ({وَلَا تَحْزَنُوا}) أي: على ظهور أعدائك، وما فاتكم من الغنيمة، وكان قد قُتِل يومئذ خمسةٌ مِنَ المهاجرين؛ وهم: حَمْزَة، ومُصْعَب بن عُمَيْر صاحب راية النَّبِيِّ صلعم ، وعَبْد اللهِ بن جحش ابنُ عمَّة النَّبِيِّ / صلعم ، وعُثْمَان بن شَماس، وسَعْدٌ مولى عتبة، ومِنَ الأَنْصَار سبعون رجلًا.
          قوله: ({وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}) جمع (أعلى) ؛ أي: بالحجَّة في الدنيا والآخرة، ولكم الغَلَبة فيما بعدُ.
          قوله: ({إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}) : أي: إذ كنتم، وقيل: إذ دمتم على الإيمان في المستقبل.
          قوله: ({إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}) الآية قال راشد بن سَعْدٍ: انصرف النَّبِيُّ صلعم يوم أُحُد كئيبًا، وجعلت المرأة تجيء بابنها وأبيها وزوجها مقتولين، فقال صلعم : أهكذا تفعل برسولك؟ فأنزل الله تَعَالَى هذه الآية، ويقال: أقبل عليٌّ ☺ يومئذ وَفِيهِ نَيِّف وستُّون جراحة مِن طعنة وضربة ورمية، فجعل صلعم يمسحها بيده وهي تَلْتَئِمُ بإذن اللَّه تعالى كأن لم تكن.
          قوله: ({إِنْ يَمْسَسْكُمْ}) مِنَ (المسِّ) ؛ وهو الإصابة، و(القَرْح) بالفتح: الجِراح، واحدتها: قَرْحة، وبالضمِّ: اسمُ الجِراح، وبِفَتْحِ الرَّاء: مصدرُ قَرَح يَقْرح، وقال الكسائيُّ: «القَُرْح» بالْفَتْح والضمِّ واحد؛ أَيْ: الجراح، وقال الفَرَّاءُ: هو بالْفَتْح مصدر «قرحته» فهو نفس الجراح، وبالضمِّ الألم، وقال أبو البقاء: بِضَمِّ الْقَاف والرَّاء على الإتباع، والمعنى _وَاللهُ أَعْلَمُ_: لا تحزنوا إِنْ أصابكم جرحٌ يوم أُحد، فقد أصاب الْمُشْرِكِينَ مثلُه يوم بَدْر، ومع هذا إِنَّ قتلاكم في الجنَّة، وقتلاهم في النار.
          قوله: ({وَتِلْكَ الأَيَّامُ}) {تلك} مُبْتَدَأ، و{الأيَّامُ} خبره، و{نُدَاوِلُهَا} في موضع الحال، والعاملُ فِيهَا معنى الإشارة، ويجوزُ أن يكون {الأيَّام} بدلًا أو عطفَ بيانٍ، و{نُداوِلُها} الْخَبَر، والمعنى: لا تهِنوا؛ فالحربُ سِجَال، وأنا أُدَاوِل الأيَّامَ بين الناس، فأُديل الكافر مِنَ المؤمن؛ تغليظًا للمِحْنة والابتلاء، ولو كانت الغَلَبة للمؤمنين؛ لصاروا كالمضطرِّين، ويقال: نُديلُ عليكمُ الأعداء تارةً وإِنْ كانتِ العاقبةُ لكم؛ لِما لنا في ذَلِكَ مِنَ الحِكَم؛ ولهذا قال: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا}[آل عِمْرَان:140]، قَالَ ابنُ عَبَّاس في مثلِ هذا: لنرى مَن يصبرُ على مناجَزةِ الأعداء.
          قوله: ({وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاء}) : أي: وليتَّخذ منكم شهداء؛ يعني: نكرم ناسًا منكم بالشهادة؛ يعني: المستشهدين يوم أحد، أو ليتَّخذ منكم شهداء؛ أي: مَن يصلح للشهادة على الأُمَم يَوْم الْقِيَامَةِ، وقَالَ ابنُ جُرَيْج: كان الْمُسْلِمُونَ يقولون: ربَّنا؛ أرِنا يومًا كيوم بَدْر نلتمس فِيهِ الشهادة، فاتَّخذ الله منهم شهداء يوم أحد.
          قوله: ({وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}) أي: الْمُشْرِكِينَ.
          قوله: ({وَليُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا}) معطوفٌ على قوله: {وَلْيَعْلَمَ اللهُ}.
          (التَّمْحِيصُ) : التَّطْهِيرُ والتَّصْفِيَة، وقيل: «التَّمْحِيص»: الابتلاء والاختبار، والمعنى: ليُكفِّر الله عنِ الْمُؤْمِنِينَ ذنوبَهم إِنْ كانت لهم ذنوب، وإلَّا؛ يرفع لهم درجاتٍ بحَسَب ما أُصِيبوا به.
          قوله: ({وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}) أي: وَإن يَمْحَق الْكَافِرين؛ أي: يهلكهم، وقيل: يُنقِصهم ويقلِّلهم، يقال: محق الله الشيء فامْتَحَقَ وانْمَحَقَ.
          قوله: ({أَمْ حَسِبْتُمْ}) : [كلمة: {أم} منقطعة، ومعنى الْهَمْزَة فِيهَا الإنكار، والمعنى: أحسبتم] أن تدخلوا الجنَّة ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد؛ كما دخل الَّذِينَ قُتِلوا وثَبَتوا على أَلَمِ الجِراح؟!
          قوله: ({وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ}) كلمة {لمَّا} بمعنى: (لم) إلَّا أنَّ فِيهِ ضربًا مِنَ التوقع، فدلَّ على نَفْي الْجِهَادِ فيما مضى، وعلى توقُّعه فيما يُستَقبَل.
          قوله: ({وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}) قال الزجَّاج: الواو هنا بمعنى: «حَتَّى»؛ أَيْ: حَتَّى يعلم صبرهم، وقرأ الْحَسَن بِكَسْرِ الْمِيمِ عطفًا على الأَوَّل، ومنهم مَن قرأ بالضمِّ؛ على تقدير: وهو يعلمُ، وحاصل المعنى: لا يحصل لكم دخول الجنَّة حَتَّى تُبْتَلوا، ويرى اللَّه منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مُقارَنَة الأعداء.
          قوله: ({وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}) قَالَ ابنُ عَبَّاس: لمَّا أخبر الله تَعَالَى على لسان نبيِّه صلعم ما فَعَل بشهدائهم يوم بَدْر مِنَ الكرامة؛ رغِبوا في ذلك، فأراهم يوم أحد، فلم يلبَثوا أنِ انْهَزَمُوا، فنزلت هذه الآية؛ أَيْ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أي: القتالَ {مِنْ قَبْلِ أنْ تَلْقَوهُ} يومَ أحد، {فَقَد رَأَيتُمُوهُ} يومئذ {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} يعني: الموتَ في لَمَعان السيوف، وحَدِّ الأسِنَّة، واشتباك الرِّماح، وصفوف الرِّجال للقتال، فكيف انهزمتُم؟
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف جاز تمنِّي الشهادة وَفِيهِ غَلَبةُ الكفَّار / على الْمُسْلِمِينَ؟
          قُلْت: لأنَّ غرضَ المتمنِّي ليس إلَّا حصول الشهادة، مع قَطْعِ النَّظر لغلبة الكفَّار وإِنْ كان متضمِّنًا له.
          قوله: ({وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ}) قال مُحَمَّد بن كَعْب: لمَّا رجع النَّبِيُّ صلعم وأصحابه مِن أُحُد إلى الْمَدِينَة؛ قال قوم منهم: مِن أين أصابنا هذا وقد وعده اللَّه النصر؟ فنزلت هذه الآية، قال المفسِّرون: وعدهم اللَّه النصر بأُحُد فلمَّا طلبوا الغنيمةَ؛ هُزِموا.
          قوله: ({إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}) أي: حين تَقتلونهم قَتْلًا ذَريعًا بإذنه؛ أَيْ: بأمره وتيسيره، ويقال: سَنَةٌ حَسُوس؛ إذا أتتْ على كلِّ شيء، وجَرادٌ مَحْسُوس؛ إذا قتله البَرْد.
          قوله: ({حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ}) أي: جَبنْتُم وَضَعُفْتُم، يقال: فشل الرجل يفشل فهو فشيل، وَفِيهِ تقديم وتأخير؛ أَيْ: حَتَّى إذا تنازعتم وعصيتم؛ فشلتم، وقيل: {حَتَّى} بمعنى (إلى)، وحينئذ لا جواب؛ أَيْ: صدَقَكم اللَّه وعده إلى أن فشلتم وتنازعتم؛ أَيْ: اختلفتم، وكان ذَلِكَ في أَوَّل الأَمْرِ لمَّا انهزم الْمُشْرِكُونَ؛ قال بعض الرماة الَّذِينَ كانوا عند المركز: ما مقامنا هنا؟ قد انهزَمَ القومُ، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أَمْرَ رَسُول اللهِ صلعم ، فثبت عَبْدُ اللهِ بن جُبَيْر أميرُ الرُّماة في نَفَر يسيرٍ دون العَشَرة، وانطلق الباقون يَنْتَهِبُون، فلمَّا نظر خَالِد بن الْوَلِيد وعِكْرِمَة بن أَبِي جَهْلٍ ذلك؛ حملوا على الرُّماة، فقتلوا عَبْدَ اللهِ وأصحابَه، وأقبلوا على الْمُسْلِمِينَ.
          قوله: ({وَعَصَيْتُمْ}) أي: بترك المركز.
          قوله: ({مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}) : مِنَ النصر والظفر بهم.
          قوله: ({مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}) أي: الغنيمة، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} وهم الَّذِينَ ثبتوا في المركز.
          قوله: ({ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}) أي: ردَّكم عنِ الْمُشْرِكِينَ بهزيمتِكم، وأَدالَهُم عليكم؛ لِيَخْتَبِرَكُمْ ويَمْتَحِنَكُم.
          قوله: ({وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}) [أي: ذنبكم بعصيان الرَسُول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والانهزام، وقَالَ ابنُ جُرَيْج: {ولقد عفا عنكم}] بأن لم يستأصلكم، وكذا قال مُحَمَّد بن إِسْحَاق، رواهما ابن جرير.
          قوله: ({وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}) قيل: إذ عفا عَنْهم، وقيل: إذ لم يُقْتَلوا جَميعًا.
          قوله: ({وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآيَةَ) : نزلت في شهداء أُحُد، وروى مُسْلِم مِن طريق مسروق قال: سألنا عَبْد اللهِ بن مسعود عن هؤلاء الآيات قال: أما إنَّا قد سألنا عَنْها؛ فقيل لنا: «إنَّهُ لمَّا أصيب إخوانكم بأُحُد؛ جعل اللَّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنَّة، وتأكل مِن ثمارها..» الْحَدِيث، وعَنِ ابنِ عَبَّاس فيما رواه أَحْمَد أنَّهُ قال: (لمَّا أصيب إخواننا بأُحُد؛ جعل اللَّه أرواحهم بأجواف طير خضر ترد أنهار الجنَّة، وتأكل مِن ثمارها، وتأوي إلى قناديل مِن ذهب معلَّقة في ظلِّ العرش، فلمَّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم؛ قالوا: مَن يبلغ إخواننا عنَّا أنَّا في الجنَّة نُرَزق؛ لئلَّا يزهدوا عن القتال؟ فقال اللَّه تَعَالَى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآية، وقيل: نزلت في شهداء بَدْر، وقيل: في شهداء بِئْر مَعُونَةَ، وقيل غير ذلك، وروى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابن عَبَّاس أَيْضًا قال: قال رَسُول اللهِ صلعم : «الشهداء على بارق نَهر بباب الجنَّة في قبَّة خضراء، يخرج عليهم رزقهم مِنَ الجنَّة بكرةً وعشيًّا»، وقَالَ ابنُ كثير في «تَفْسِيره»: وكأنَّ الشهداءَ أقسامٌ؛ منهم مَن تسرح أرواحهم في الجنَّة، ومنهم مَن يكون على هذا النهر بباب الجنَّة، وقد يحْتمل أَنْ ينتهي سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويُغدى عليهم برزقهم هناك ويُراح، وَاللهُ أَعْلَمُ.