عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}
  
              

          ░4▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:9-13].
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذِكْرِ قولِ الله تعالى: ({إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}) الآيات، هكذا سيقت هذه الآياتُ كلُّها في رواية كريمة، وفي روايةِ الأكثرين: <باب قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} إلى قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ}>.
          قوله: ({إِذْ تَسْتَغِيثُونَ}) بدلٌ مِن قوله: ({إِذْ يَعِدُكُمُ})، وقيل: يتعلَّق بقوله: ({لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}) [الأنفال:8].
          واستغاثتُهم أنَّهم لمَّا علِموا أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ القتال؛ طفِقوا يدعون الله تعالى: أيْ ربِّ؛ انصرنا على عدوِّك، يا غياثَ المستغيثين؛ أغِثْنا، وسيجيءُ بيانُ الاستغاثة في حديث ابن عَبَّاس ☻.
          قوله: ({أَنِّي مُمِدُّكُمْ}) مِنَ الإمداد، وقد مرَّ الكلام فيه عن قريبٍ، وأصل {أنِّي} (بأنِّي)، فحُذِفَ الجارُّ، وسُلِّط عليه (استجابَ)، فنَصَب محلَّه، وعن أبي عَمْرٍو أنَّهُ قرأ: {إنِّي مُمِدُّكم}؛ بالكسر، على إرادة القول، أو على إجراء (استجاب) مُجرى (قال) ؛ لأنَّ الاستجابة مِنَ القول.
          قوله: ({مُرْدِفِينَ}) أي: مردفٌ بعضُهم بعضًا، وعن ابن عَبَّاس: مُتتابعين؛ يعني: وراء كلِّ مَلَكٍ مَلَك، وقال ابن جَرير: حدَّثني المُثَنَّى: حَدَّثَنَا إسحاق: حَدَّثَنَا يعقوب بن مُحَمَّد الزُّهْريُّ: حدَّثني عبد العزيز بن عِمْرَان عن الزَّمَعيِّ، عن أبي الحُوَيرث، عن مُحَمَّد بن جُبَير، عن عليٍّ ☺ قال: (نزل جبريل ◙ في ألفٍ مِنَ الملائكة عن مَيمنةِ النَّبِيِّ صلعم ، وفيها أبو بكر ╩، ونزل ميكائيلُ في ألفٍ مِنَ الملائكة عن مَيْسَرة النَّبِيّ صلعم وأنا في المَيْسَرة)، وهذا يقتضي _لو صحَّ إسنادُه_ أنَّ الأَلْفَ مُردفةٌ بمثلها؛ ولهذا قرأ بعضهم: {مُرْدَفِينَ} بفتح الدال.
          قوله: ({وَمَا جَعَلَهُ اللهُ}) أي: وما جَعَل الله بَعْثَ الملائكة وإعلامَه إيَّاكُم بهم ({إلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُم}) وإلَّا؛ فالله تعالى قادرٌ على نصركم على أعدائكم بدونِ ذلك؛ ولهذا قال: ({وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ}).
          قوله: ({إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ}) كلمة {إِذْ} بدلٌ ثانٍ مِن ({إِذْ يَعِدكم})، أو بـ{النَّصْرُ}، أو بما في {[مِنْ] عِنْدِ اللهِ} مِن مَعنى الفعل، أو بـ{مَا جَعَلَهُ اللهُ}، ومعنى {يُغَشِّيكُمُ} يُغطِّيكم، يقال: غشَّاه يُغشِّيهِ تغشيةً؛ إذا غطَّاه، قال الزَّمَخْشَريُّ: قُرئَ بالتشديد والتخفيف، ونصب {النعاس}، والضميرُ لله ╡ .
          قوله: ({أَمَنَةً}) مفعولٌ له؛ أي: لأمنِكُم، قال المفسِّرون: ذكَّرهم اللهُ بما أنعم اللهُ به عليهم؛ مِن إلقائه النعاسَ عليهم؛ أمانًا مِن خوفهم الذي حَصَل لهم مِن كثرة عدوِّهم وقلَّة عَدَدِهم، وقال أبو طلحة: كنتُ ممَّن أصابه النعاسُ يوم أُحُد، ولقد سَقَط السيفُ مِن يَدي مرارًا، ولقد نظرتُ إليهم يمتدُّون وهم تحت / الجُحُف، وقال سُفيان الثَّوْريُّ عن عاصم عن أبي رَزين عن عبد الله بن مسعود أنَّهُ قال: النعاسُ في القتال أمنةٌ مِنَ الله، وفي الصلاةِ مِنَ الشيطان، وقال قَتادة: النعاسُ في الرأس، والنومُ في القلب، وقال سهل بن عبد الله: هو يحلُّ في الرأس مع حياة القلب، والنوم يحلُّ في القلبِ بعد نزولِه مِنَ الرأس.
          قوله: ({وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ}) إلى قوله: ({الْأَقْدَامَ}) وعنِ ابنِ عَبَّاس: نزل المسلمون يوم بدر على كثيبٍ أعْفَرَ يَسوخُ فيه الأقدامُ وحوافرُ الدوابِّ، وسَبَقهم المشركونَ إلى ماء بدر، وغَلَبوهم عليه، وأصبحَ المسلمون بعضُهم مُحْدِثينَ وبعضُهم مُجْنِبينَ، وأصابَهمُ الظمأ، ووسوس إليهمُ الشيطان، وقال: تزعُمُون أنَّ فيكم نبيَّ الله، وأنَّكم أولياء الله، وقد غَلَبكم المشركون على الماء، وأنتم تُصلُّون جُنُبًا ومُحْدِثينَ، فكيف ترجُونَ أن تَظهروا عليهم؟ فأرسل الله عليهم مطرًا مِنَ السماء سال منه الوادي، فشربَ مِنه المسلمون، واغتسلوا، وسَقَوا الرِّكاب، ومَلَؤوا الأسقية، وأطفأتِ الغبار، واشتدَّ الرمل حَتَّى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسةُ الشيطان، فذلك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ} الآية.
          قوله: ({إِذْ يُوحِي رَبُّكَ}) بدلٌ ثالثٌ مِن {إِذْ يَعِدُكُمُ}، وأن ينتصِبَ بـ{يُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدامَ}.
          قوله: ({أَنِّي مَعَكُمْ}) مفعولُ {يُوحِي}، وقُرِئَ: {إنِّي} بالكسر، على إرادة القول.
          قوله: ({فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}) : المعنى: أنِّي مُعينُكم على التثبُّت فثبِّتُوهم، وقال ابن إسحاق: وآزِرُوهم، وقيل: قاتِلوا معهم، وقيل: كثِّروا سَوادَهم.
          قوله: ({الرُّعْبَ}) : أي: الخوفَ والمذلَّة والصَّغار
          قوله: ({فَاضْرِبُوا فَوقَ الأَعْنَاقِ}) قال الزَّمَخْشَريُّ: أرادَ أعاليَ الأعناقِ التي هي المَذابح؛ لأنَّها مَفاصل، وكانَ إيقاعُ الضَّربِ فيها حزًّا وتطييرًا للرؤوس، وقيل: أراد الرُّؤوس؛ لأنَّها فوقَ الأعناق.
          قوله: ({كُلَّ بَنَانٍ}) : قال الزَّمَخْشَريُّ: البنان: الأصابع؛ يريد: الأطراف، وقيل: كلُّ مفصل.
          قوله: ({ذَلِكَ}) إشارةٌ إلى ما أصابهم مِنَ الضرب والقتل والعِقابِ العاجل، ومحلُّه الرفعُ على الابتداء، وقوله: ({بِأَنَّهُمْ}) خبرُه؛ أي: ذلك العقابُ وَقَع عليهم بسبب مشاقَّتِهم.
          قوله: ({شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ}) : أي: خالَفُوهما.
          قوله: ({شَدِيدُ الْعِقَابِ}) : أي: هو الطالبُ الغالبُ لِمَن خالَفَه وناوَأَه، لا يفوتُه شيء، ولا يقومُ لغَضَبه شيء.