عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب غزوة تبوك
  
              

          ░78▒ (ص) باب غَزْوَةُ تَبُوكَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان غَزْوَة تَبُوكَ؛ بفتح التاء المُثَنَّاة مِن فوق وضمِّ الباء المُوَحَّدة وسكون الواو وفي آخره كافٌ، وقيل: سُمِّيت تبوك بالعين التي أمر النَّبِيُّ صلعم الناس ألَّا يمسُّوا مِن مائها شيئًا، فسبق إليها رجلان وهي تبضُّ بشيءٍ مِن ماء، فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فسبَّهما رسول الله صلعم ، وقال لهما فيما ذكر القتبيُّ: «ما زلتُما تبوكانِها منذ اليوم»، قال القتبيُّ: فبذلك سُمِّيت العينُ تبوك، و(البَوك) كالنَّقش والحفر في الشيء، ويَرُدُّ هذا ما رواه مسلمٌ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم ، قال: «إنَّكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنَّكم لن تأتوها حَتَّى يضحي النهار، فمَن جاءها فلا يمَسَّ مِن مائها شيئًا حَتَّى آتي»، فهذا رسول الله صلعم سَمَّاها تبوك قبل أن يأتيها، وفي رواية ابن إسحاق: فقال _يعني النَّبِيَّ صلعم _: «مَن سَبَقَ إليها؟» قالوا: يا رسول الله؛ فلان وفلان وفلان، وفي رواية الواقديِّ: سبقه إليها أربعة مِنَ المنافقين؛ معتِّب بن قُشَير والحارث بن يزيد الطائيُّ ووديعة بن ثابت وزيد بن لُصَيت، وبينها وبين المدينة نحو أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وقال الكَرْمَانِيُّ: تبوك موضع بالشام.
          قُلْت: فيه نظرٌ؛ لأنَّ أهل تقويم البلدان قالوا: تبوك بُلَيدة بين الحِجْر والشام، وبها عينٌ ونخيل، وقيل: كان أصحابُ الأيكة بها، والمشهورُ تركُ الصرف للتأنيث والعلميَّة، وجاء في «البُخَاريِّ»: (حَتَّى بلغ تبوكًا) تغليبًا للموضع.
          وغزوة / تبوك هي آخِرُ غزوةٍ غزاها رسول الله صلعم بنفسه، وقال ابن سَعدٍ: خرج إليها رسولُ الله صلعم في رجبٍ سنة تسعٍ يوم الخميس، قالوا: بلغه صلعم أنَّ الرومَ قد جمعت جموعًا كثيرةً بالشام، وأنَّ هرقل قد رزق أصحابه لِسَنةٍ وأجلبت معه لَخْم وجُذَام وعاملة وغسَّان، وقدَّموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلعم الناسَ إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وذلك في حرٍّ شديدٍ، واستخلف على المدينة مُحَمَّد بن مَسْلَمَة، وهو أثبتُ عندنا، وقال أبو عمر: الأثبتُ عندنا عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ ، وقال ابن سَعدٍ: فلمَّا سار تَخَلَّف ابن أُبَيٍّ ومَن كان معه، فقدم صلعم تبوكَ في ثلاثين ألفًا مِنَ الناس، وكانت الخيل عشرة آلافٍ، وأقام بها عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولحقه بها أبو ذرٍّ وأبو خَيْثَمة، ثُمَّ انصرف رسول الله صلعم ولم يلقَ كيدًا، وقدم المدينة في شهرِ رمضان سنة تِسعٍ، وقال ابن الأثير في «كتاب الصحابة»: عن أبي زُرْعَةَ الرازيِّ: شهد معه تبوك أربعون ألفًا، وفي كتاب الحاكم عن أبي زُرْعَةَ: سبعون ألفًا، ويجوز أن يكون عدَّ مَرَّةً المتبوع ومرَّة التابع والمتبوع، وقال البَيْهَقيُّ: وقد رُوِيَ في سبب خروجه صلعم إلى تبوك وسبب رجوعه خبرٌ إن صحَّ، ثُمَّ ذكر مِن حديث شهر بن حَوْشَب عن عبد الرَّحْمَن بن غنم: أنَّ اليهود أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا أبا القاسم؛ إن كنت صادقًا أنت نبيٌّ؛ فالحَقْ بالشام، فَإِنَّهُا أرض المحشر، وأرض الأنبياء ‰ ، فصدَّق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلَّا الشام، فلمَّا بلغ تبوك أنزل الله عليه آياتٍ مِن سورة بني إسرائيل: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا}[الإسراء:76] إلى قوله: {تَحْوِيلًا}[الإسراء:77]، وأمره تعالى بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك وفيها مماتك ومنها تُبعث... الحديث، وهو مرسَلٌ بإسنادٍ حسنٍ.
          (ش) أي: غزوة تبوك غزوةُ العُسْرَة؛ بِضَمِّ العين وسكون السين المهملتين، مأخوذ مِن قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}[التوبة:117] وروى ابن خُزَيمة مِن حديث ابن عَبَّاسٍ: قيل لعمر ☺ : حَدِّثنا عن بيان ساعة العُسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فأصابنا عطش... الحديث، وفي «تفسير عبد الرزَّاق» عن معمر عن أبي عقيل قال: خرجوا في قلَّة مِنَ الظهر وفي حرٍّ شديدٍ، حَتَّى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كَرِشِه مِنَ الماء، فكان ذلك عُسرةً في الماء وفي الظَّهْر وفي النفقة، فسُمِّيت غزوة العُسرة.