الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يكره من التشديد في العبادة

          ░18▒ (بَابُ مَا يُكْرَهُ): بالبناء للمفعول (مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ): التَّشديد _بالشِّين المعجمة_ مصدر شدد، فيُكره للإنسان تنزيهاً أن يُحمِّل نفسَه المشقَّة الزَّائدة في العبَادة خوفاً مِن الملال المفضِي إلى تركها، فيكون كالمنبتِّ لا أرضاً قطعَ ولا ظهراً أبقَى.
          وقال ابن بطَّالٍ: إنَّما يُكره التَّشديدُ في العبادةِ خشيةَ الفتُور وخوف الملال، ألَا ترى قوله صلعم: ((خيرُ العمَلِ ما داومَ عليه صَاحبُه وإن قلَّ)) وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فكرهَ صلعم الإفراطَ في العبادةِ لئلَّا ينقطعَ عنها المرء، فيكون كأنَّه رجوعٌ في ما بذله مِن نفسهِ لله تعالى وتطوَّع به؛ أي: فيكره قيام المضرِّ، ومِن ثمَّ كره قيام كل اللَّيل دائماً مطلقاً.
          قال فقهاؤنا: واللَّفظ لـ((التُّحفة)): يُكره قيام أيِّ شهرٍ كلَّ اللَّيل ولو في عبَادةٍ دائماً للنَّهي عنه في الخبرِ المتَّفقِ عليه، ولأنَّه يضرُّ كما أشارَ إليه الحديثُ؛ أي: من شأنه ذلك، ومِن ثمَّ كُره قيامٌ مضرٌّ ولو في بعض اللَّيل، وبحث الطَّبريُّ عدمَ كراهتهِ لِمَن يعلم مِن نفسهِ عدمَ الضَّرر أصلاً، قال الأذرعيُّ: وهو حسنٌ بالغٌ، كيف وقد عُدَّ ذلك في مناقبِ أئمَّةٍ؟! انتهى.
          ويُجاب: بأنَّ أولئك مجتهدون، لا سيَّما وقد أسعفهم الزَّمان والإخوانُ، وهذا مفقودٌ اليوم، فلم يتَّجه إلَّا الكراهة مطلقاً لغلبة الضَّرر والفتنة بذلك، وخرجَ بكلِّ اللَّيل دائماً قيامُ ليالٍ كاملةٍ؛ لأنَّه صلعم كان يفعل ذلك في العشر الأخير مِن رمضان، وإنَّما لم يُكره صومُ الدَّهر بقيدِهِ الآتي؛ لأنَّه يستوفي في اللَّيل ما فاته، وهنا لا يُمكنُه نومُ النَّهار لتعطُّل ضَروريَّاته الدينيَّة والدُّنيويَّة. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وسُئل الشَّافعيُّ عن قيام جميعِ اللَّيل؟ فقال: لا أكرهه إلَّا لمن خشيَ أن يضرَّ بصلاة الصُّبح. انتهى، ولعلَّه محمولٌ على بعض اللَّيالي، فتأمَّل.