الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قيام النبي بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل

          ░11▒ (بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلعم بِاللَّيْلِ): أي: للصَّلاة (وَنَوْمِهِ): بالجرِّ عطفاً على ((قيام))، فهما حكمان مستقلَّان، ولأبي ذرٍّ: <مِن نومه> فيتعلَّق بـ((قيام)) على أنَّه مِن تتمَّته (وَمَا): موصولٌ عطفٌ على ((قيام)) (نُسِخَ): بالبناء للمفعول (مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ): بيانٌ لـ((ما))، وفي نسخةٍ: <مِن اللَّيل> أي: مِن قيامه، وأشار بذلك إلى ما أخرجه مسلمٌ عن عائشة قالت: إنَّ الله افترض قيام اللَّيل في أوَّل هذه السُّورة؛ يعني: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}، فقام نبيُّ الله وأصحابه حولاً، حتَّى أنزلَ الله في آخرها التَّخفيف، فصار تطوُّعاً، واستغنى البخاريُّ عن إيراده لكونه على غير شرطه بما أخرجه عن أنسٍ، فإنَّ فيه ما يدلُّ على أنَّه ربَّما نام كلَّ اللَّيل، فلو استمرَّ الوجوب لَما أخلَّ به، وبهذا تظهر مطابقة الحديث للتَّرجمة، قاله في ((الفتح)).
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى): بالجرِّ أو الرَّفع ({يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}): أي: الملتفُّ في ثيابه والمتدثِّر فيها، و{المزَّمل} و{المدَّثر} مِن أسماء نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام، وأصله: المتزمِّل، فقُلبت التَّاء زاياً وأُدغمت وقرئ: {المزمِّل} على الأصل و▬المزَمل↨: بتخفيف الزَّاي وفتح الميم وكسرها، وروى ابن أبي حاتمٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي: يا محمَّدُ قد زُمِّلت القرآن.
          ({قُمِ اللَّيْلَ}): أي: فيه، قال البيضاويُّ: وقُرئ: ▬قمُ اللَّيل↨: بضمِّ الميم وفتحها إتباعاً أو تخفيفاً.
          ({إِلَّا قَلِيلًا}): أي: إلَّا زمناً قليلاً منه ({نِصْفَهُ}): بدلٌ مِن: {اللَّيلِ} و{إِلَّا قَلِيْلًا}: استثناءٌ مِن: {نِصْفَهُ} ({أَوِ انْقُصْ}): عطفٌ على {قُمْ} ({مِنْهُ}): أي: النِّصف ({قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}): أي: على نصفِه، عطفٌ على {انْقُصْ}، والمعنى: التَّخيير بين أمرين: أن يقوم أقلَّ مِن النِّصف على البتِّ وبين أن يختار أحد الأمرين: النُّقصان مِن النِّصف والزِّيادة عليه، قاله في ((الكشَّاف))، واعترضه في ((البحر)): بأنَّه يلزم عليه التَّكرار، وقال البيضاويُّ: {إِلَّا}: استثناءٌ مِن: {اللَّيْل} و{نِصْفَهُ} بدلٌ من {قَلِيْلًا}، والتَّخيير بين النِّصف والزَّائد عليه والنَّاقص عنه. انتهى، وذكر أيضاً ما تقدَّم عن ((الكشَّاف)) وزاد: أو استثناء من أعداد اللَّيل، فإنَّه عامٌّ، والتَّخيير بين قيام النِّصف والنَّاقص عنه والزَّائد عليه.
          وآخر السُّورة نَسَخ أوَّلها كما مرَّ آنفاً في حديث مسلمٍ عن عائشة، وحكى الشَّافعيُّ عن بعض أهل العلم: أنَّ آخر السُّورة نسخ افتراضَ قيامِ اللَّيل إلَّا ما تيسَّر منه كقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، ثمَّ نُسِخ فرضُ ذلك بالصَّلوات الخمس، وقال ابن بطَّالٍ: اختلفوا في قوله تعالى: (({قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً})): فقيل: هو ندبٌ، وقيل: فرضٌ عليه وحدَه، وقيل: عليه وعلى أُمَّته أيضاً ثمَّ نُسِخ بعد ذلك بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُم}، وقال الحسنُ: صلاةُ اللَّيل فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ولو قدْرَ حلبة شاةٍ. انتهى.
          ({وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}): أي: اقرأه على تؤدةٍ وتبين حروفه بلا إشباعٍ مفرطٍ، وروى مسلمٌ عن حفصة: أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يرتِّل السُّورة حتَّى تكون أطول مِن أطول منها، وقال أبو بكر بن طاهرٍ: تدبَّرْ لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامِهِ وقلبك بفهم معانِيهِ / وسرَّك بالإقبالِ عليه.
          ({إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيْلًا}): قال البيضاويُّ: يعني: القرآن، فإنَّه ثقيلٌ لِما فيه مِن التَّكاليف الشَّاقَّة، أو رصينٌ لرزانة لفظه ومتانةِ معناه، أو ثقيلٌ على المتأمِّل فيه، أو ثقيلٌ في الميزان، أو على الكفَّار والفجَّار، أو ثقيلٌ تلقِّيه، والجملة على جميعِ الأوجه: مستأنفةٌ للتَّعليل.
          ({إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}): قال البيضاويُّ: إنَّ النَّفس الَّتي تنشأ مِن مضجعِها إلى العبادة، مِن نشأ مِن مكانه: نهضَ، أو قيام الليل على أنَّ النَّاشئة له، أو العبادة التي تنشأ باللَّيل، أو ساعات اللَّيل، أو ساعاتها الأول، وقيل: هي صلاةُ ما بين المغرب والعشاء، فعن عليِّ بن الحسين كما في ((الكشَّاف)): أنَّه كان يصلِّي بين المغرب والعشاء ويقول: أما سمعتم قول الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} هذه ناشئةُ اللَّيل. انتهى.
          (▬هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً↨): بكسر الواو وبفتح الطَّاء ممدوداً؛ أي: مواطأة القلب للِّسان، وهي قراءة أبي عَمرٍو وابن عامرٍ، وقرأ الباقون بفتح الواو وسكون الطَّاء؛ أي: قياماً، وقال البرماوُّي: بكسر الواو وسكون الطَّاء، كذا في أصل الكرمانيِّ، والقراءة إنَّما هي بكسر الواو والمدِّ، وبفتح الواو وسكون الطَّاء، أمَّا كسر الواو وسكون الطَّاء فقراءةٌ شاذَّةٌ لأبي الحورياء والحجازيِّ. انتهى.
          وأقولُ: الَّذي رأيته في الكرمانيِّ: (({وِطاء})): بكسر الواو وبالهمز بعد الألف على وزن فِعال، ظاهرٌ أنَّه بمعنى المواطأة، وبفتح الواو وسكون الطَّاء بمعنى: المواطأة، غير قياسيٍّ. انتهى، ثمَّ نقل عن الزَّمخشريِّ أنَّه قال: وقرئ: ▬وطأ↨: أي: نحو: فعل بالفتح والكسر. انتهى، ولعلَّ البرماويُّ وقع له نسخةُ الكرمانيِّ كما ذكره، فافهم.
          وقال البيضاويُّ: أي: كلفةً أو ثباتَ قدمٍ.
          ({وَأَقْوَمُ قِيلًا}): أي: وأشدُّ مقالاً، أو أثبت قراءةً بحضور القلب وهدوء الأصوات، وقال العينيُّ: (({وَأَقْوَمُ قِيْلًا})): يعني: وأثبت للقراءة، وعن الحسن: أبلغ في الخير وأمنع مِن هذا العدوِّ، وقال الزَّمخشريُّ: {أَقْوَمُ قِيْلًا}:أشدُّ مقالاً وأثبت قراءةً لهدوء الأصوات، وعن أنسٍ أنَّه قرأ: ▬وأصوب قيلاً↨، فقيل له: يا أبا حمزة، إنَّما هي: {أَقْوَمُ قِيْلًا}، فقال: إنَّ أقوم وأصوب وأهيأ واحدٌ.
          ({إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}): قال البيضاويُّ: أي: تقلُّباً في مهمَّاتك واشتغالاً بها، فعليك بالتَّهجُّد، فإنَّ مناجاة الحقِّ تستدعي فراغاً، وقرئ: ▬سبخاً↨: بالخاء المعجمة؛ أي: تفرُّقَ قلبٍ بالشَّواغل، مستعارٌ مِن: سبخ الصُّوف وهو نتفُه ونشرُ أجزائه، وقال السَّمرقنديُّ: فراغاً طويلاً تقضي حوائجك فيه، ففرِّغْ نفسَك لصلاة اللَّيل.
          (وَقَوْلِهِ): بالجرِّ أو بالرَّفع عطفٌ على: ((وقوله)): المارِّ ({عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}): مفعول {تُحْصُوهُ} عائدٌ إلى مصدر: {أَنَّكَ تَقُومُ} مقدَّر؛ أي: علم الله أن لن تطيقوا قيام اللَّيل، وقال البيضاويُّ: أي: علم أن لن تحصوا تقديرَ الأوقات ولن تستطيعوا ضبطَ السَّاعات.
          ({فَتَابَ عَلَيْكُمْ}): أي: رخَّص لكم في تركِ القيام المقدَّر ({فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}): قال البيضاويُّ: أي: فصلُّوا ما تيسَّر عليكم من صلاةِ اللَّيل، عبَّر عن الصَّلاة بالقرآن كما عبَّر عنها بسائر أركانها، قيل: كان التَّهجُّد واجباً على التَّخيير المذكور، فعسُرَ عليهم القيام فنُسِخ به، ثمَّ نُسِخ هذا بالصَّلوات الخمس، أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيف ما تيسَّر عليكم. انتهى.
          واختلف في مقدار ما يقرأ فقيل: يقرأ مائة آيةٍ، ومَن قرأ مائة آيةٍ في ليلةٍ لم يحاجُّه القرآن، وقيل: مَن قرأ مائة آيةٍ كُتب مِن القانتين، وقيل: خمسين آيةً. انتهى.
          ({عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}): أي: فلا يقدرونَ على قيامِه، فهو _كما قال البيضاويُّ_ استئنافٌ يُبيِّن حكمةً / أخرى مقتضيةً للتَّرخُّص والتَّخفيف، ولذلك كرَّر الحكم مرتَّباً عليه.
          ({وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ}): أي: يسافرونَ ({فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}): أي: يطلبونَ مِن رزقه بالمسافرة للتِّجارة أو للعلمِ، فيعسر عليهم قيامُ اللَّيل ({وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}): أي: يجاهدون العدوَّ في طاعةِ مولاهم ({فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}): أي: مِن القرآن مطلقاً أو في صلاة المغربِ والعشاءِ.
          ({وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}): أي: وصلُّوا الصَّلوات الخمس لفرضها عليكم ({وَآتُوا الزَّكَاةَ}): أي: وأعطوا الواجبَ في أموالكم، وقيل: المراد صدقة الفطرِ؛ لأنَّ الزَّكاة لم تكن فُرِضت بمكَّة، ومَن فسَّرها بها جعل آخر السُّورة مدنيًّا.
          ({وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}): يريد: الأمر بسائر الإنفاقاتِ في سبيل الخيرِ، وسمَّاه قرضاً تأكيداً للجزاء، وقيل: تصدَّقوا بنيَّةٍ خالصةٍ مِن مالٍ حلالٍ، وقال البيضاويُّ: أو بأداء بالزَّكاة على أحسن وجهٍ، والتَّرغيب فيه بوعد العوض، كما صرَّح به في قوله: ({وَمَا تُقَدِّمُوا لَأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}): مِن عملٍ صالحٍ وصدقةٍ خالصةٍ ({تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}): أي: تجدوا ثوابَ ما تُقدِّموه في الآخرةِ ({هُوَ}): ضمير فصلٍ، فقوله: ({خَيْرًا}): مفعولٌ ثانٍ لـ(({تَجِدُوهُ})) وقُرئ: ▬هو خيرٌ↨: بالابتداء والخبر، وقال البيضاويُّ: هو تأكيدٌ أو فصلٌ، وجاز وإن لم يقع بين معرفتَين؛ لأنَّ أفعل من كالمعرفة في امتناع دخول حرف التَّعريف عليه.
          قولُه: ({وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}): كذا وجد في نسخةٍ.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻): ممَّا وصله عبدُ بن حميدٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن سعيد بن جبيرٍ عنه، ولأبي ذرٍّ والأصيليِّ: <قال أبو عبد الله> أي: البخاريُّ <قال ابن عبَّاسٍ> (نَشَأَ): بفتحاتٍ مهموزاً، معناه (قَامَ): أي: للتَّهجُّد (بِالْحَبَشِةِ): بلا ياءٍ؛ أي: بلسان الحبشة، وفي بعض النُّسخ: <بالحبشيَّة> بالنِّسبة.
          اعلم: أنَّ مذهب الجمهور ليس في القرآن شيءٌ بغير العربيَّة، وإن وُجِد مِن ذلك شيءٌ فهو مِن توافق اللُّغتين، وعلى هذا فـ{نَاشِئَةَ} _كما مرَّ_ مصدر بوزن فاعلةٍ، مِن نشأ: إذا قام، أو اسمُ فاعلٍ؛ أي: النَّفس النَّاشئة باللَّيل؛ أي: الَّتي تنشأ مِن مضجعها إلى العبادة؛ أي: تنهضُ، وفي ((الغريبين)) لأبي عبيدٍ: كلُّ ما حدث في اللَّيل وبدأ فهو ناشئٌ، وفي ((المجاز)) لأبي عبيدة: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}: آناء اللَّيل ناشئةً بعد ناشئةٍ، قال ابن التِّين: والمعنى: أنَّ السَّاعات النَّاشئة مِن اللَّيل _أي: المقبلة_ بعضها في إثر بعضٍ هي أشدُّ.
          (وِطَاءً): بكسر الواو وفتح الطَّاء والمدِّ، تقدَّم بيان القراءات فيها (قَالَ): أي: البخاريُّ في تفسيرها (مُوَاطَأَةً لِلْقُرْآنِ): بتنوين ((مواطأةً)) لأبوي ذرٍّ والوقت، وعند غيرهما: <مواطأة القرآن> بالإضافة (أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ): وهذا التَّعليق وصله عبد بن حميدٍ مِن طريق مجاهدٍ بلفظ: أن يُوافِق سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضاً، وهذه القراءة _كما قال الطِّبريُّ_ على أنَّه مصدرٌ من قولك: واطأ اللِّسان القلب مواطأةً ووطاءً، قال: وقرأ الأكثر: {وَطْئًا}: بفتح الواو وسكون الطَّاء، ثمَّ حكى عن العرب: وطِئنا اللَّيل وطئاً؛ أي: سِرنا فيه، قال في ((الفتح)): وقال الأخفش: {أَشَدُّ وَطْئًا}: أي: قياماً، وأصل الوطء في اللُّغة: الثِّقل كما في الحديث: ((اشددْ وطأتَك على مضر)). انتهى.
          ({لِيُوَاطِئُوا}: لِيُوَافِقُوا): هذه الكلمة مِن سورة براءة، ذكر تفسيرها هاهنا تأييداً لِما قاله، وهذا التَّعليق وصله الطَّبريُّ عن ابن عبَّاسٍ، لكن بلفظ: ليشابهوا؛ يعني: والمشابهة موافقةٌ في الجملة، وهذا على عادته أنَّه قد يفسِّر ما يقع مِن كلمةٍ غريبةٍ.