الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل قيام الليل

          ░2▒ (بَابُ فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ): أي: شرف قيامه بالصَّلاة، سواءٌ تهجَّد أو لا، ويحتمل أن يريد بذلك التَّهجُّد فقط.
          وقال شيخ الإسلام: أي: فضل صلاة النَّفل المطلق فيه على النَّفل المطلق في النَّهار، وعلى ذلك حُمِل خبر مسلمٍ: ((أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ قيامُ صلاةِ اللَّيلِ))، وإلَّا فأفضلُ النَّفل عند الشَّافعيَّة: صلاة العيد ثمَّ الكسوف ثم الخسوف ثم الاستسقاء ثمَّ الوتر ثمَّ ركعتي الفجر ثمَّ بقيَّة الرَّواتب المؤكَّدة ثمَّ التَّراويح ثَّم الضُّحى. انتهى، ومثله في ((التُّحفة)) لكن صرَّح بتفضيل عيد النَّحر على / عيد الفطر، ثمَّ قال عقب الضُّحى: فما تعلَّق بفعلٍ كسنَّة طوافٍ للخلافِ في وجوبها فتحيَّةٌ فإحرامٌ فسنَّة وضوءٍ، فما تعلَّق بغير سبب كسنَّة الزَّوال فالنَّفل المطلق، وبعضهم أخَّر سنَّة الوضوء عن سنَّة الزَّوال. انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: هو _أي حديث مسلمٍ؛ أي: عن أبي هريرة_ يدلُّ على أنَّه أفضل مِن ركعتي الفجر، وقوَّاه النَّوويُّ في ((الرَّوضة))، لكنَّ الحديث اختُلِفَ في وصلهِ وإرساله، وفي رفعهِ ووقفه، ومِن ثمَّ لم يخرِّجه المصنِّف، والمعتمد: تفضيلُ الوتر على الرَّواتب [وغيرها] كالضُّحى إذ قيل بوجوبه، ثمَّ ركعتي الفجر لحديث عائشة المرويِّ في ((الصَّحيحين)): لم يكن النَّبيُّ على شيءٍ مِن النَّوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر، وحديث مسلمٍ: ((ركعتا الفجرِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها))، وهما أفضل مِن ركعتين في جوف اللَّيل.
          وممَّا يدلُّ على فضلِ قيام اللَّيل آياتٌ، منها: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] وقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}...إلى قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:16-17]، فمَن عرفَ فضيلةَ قيام اللَّيل بسماعِ الآيات والأخبار والآثار، واستحْكمَ رجاؤه وشوقُه إلى ثوابهِ ولذَّة مناجاتهِ لربِّه وخلوته به هاجه الشَّوقُ وباعث التَّوق فطرد عنه النَّوم، قال بعض العارفين مِن المتقدِّمين: أوحى الله تعالى إلى بعض الصِّدِّيقين: أنَّ لي عباداً يحبُّوني وأحبُّهم ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم، فإن حدوتَ طريقتَهم أحببتُك، قال: يا ربِّ، وما علامتُهم؟ قال: يحنُّون إلى غروب الشَّمس كما تحنُّ الطَّير إلى أوكارها، فإذا جنَّهم اللَّيل نصبوا إليَّ أقدامَهم وافترشوا لي وجوههم وناجوني بكلامي وتملَّقوا إليَّ بإنعامي، فبين صارخٍ وباكٍ متأوِّهٍ وشاكٍ، بعيني ما يتحمَّلون مِن أجلي، وبسمعِي ما يشتكون مِن حبِّي، أوَّل ما أعطيهم أن أقذفَ مِن نوري في قلوبهم فيُخبِرون عنِّي كما أُخبِر عنهم.