الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل

          ░12▒ (بَابُ عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ): أي: صلاة العشاء أو قيام اللَّيل ولو ركعتَين، أو الأعمُّ وهو الأولى.
          ((عَقْد)) بفتح العينِ وسكون القاف، مصدر عَقَدَ؛ بمعنى: ربط، وإضافته إلى ((الشَّيطان)) مِن إضافة المصدر إلى فاعله، وهو إبليسُ أو جنسه، وسيأتي في ((عقد)) وجهان آخران: كونه ماضياً وجمعاً، و((على قافيةِ)): كالظَّرف بعده متعلِّقٌ بالمصدر، وهي بقافٍ فألفٍ ففاءٍ فتحتيَّةٍ خفيفةٍ: قفا الرَّأس، وهو مؤخَّرُ العنق أو مؤخَّر الرَّأس أو وسطه، وقال الأزهريُّ: قافية الرَّأس: قفاه، وقافية كلِّ شيءٍ: آخره، ومنه: قافية القصيدة.
          وظاهر قوله: ((إذا لم يصلِّ باللَّيل)) مخالفٌ لظاهر حديث الباب؛ لأنَّه دالٌّ على أنَّه يعقد على رأس مَن صلَّى ومَن لم يصلِّ، قاله ابن التِّين وغيره، وأجاب ابن رشيدٍ: بأنَّ مراد البخاريِّ: باب بقاء عقد الشَّيطان..إلخ، ومثله للمازريِّ فإنَّه قال: وقد يُعتَذر عنه بأنَّه إنَّما قصد مَن يُستدَام العقد على رأسِه بتركِ الصَّلاة، وكأنَّه قدَّر مَن انحلَّت عقده كأن لم تُعقَد عليه. انتهى، قال في ((الفتح)): وعلى هذا فيجوز أن يقرأ: ((عقد)) بلفظ الفعل وبلفظ الجمع. انتهى.
          ثمَّ قال في ((الفتح)): ويحتمل أنَّ الصَّلاة المنفيَّةَ في التَّرجمة صلاةُ العشاء، وكأنَّ المصنِّف يرى أنَّ الشَّيطان إنَّما يفعل ذلك بمَن نام قبل صلاةِ العشاء دون مَن صلَّاها، لا سيما / في جماعةٍ، وكأنَّ هذا هو السِّرُّ في إيراده لحديث سمرة، فإنَّ فيه: ((وينامُ عن الصَّلاةِ المكتوبةِ))، ولا يرِدُ عليه أنَّه أورد التَّرجمةَ في أثناء صلاة اللَّيل لإمكان الجواب عنه: بأنَّه أراد دفع توهُّم مَن يحمل الحديثَين على صلاة اللَّيلِ؛ لأنَّه ورد في بعض طُرُق حديث سمرة غير مقيَّدٍ بالمكتوبة، والوعيد علامة الوجوبِ، وكأنَّه أشار إلى خطأ مَن احتجَّ به على وجوبِ صلاة اللَّيل حملاً للمطلق على المقيَّد.
          ثمَّ وجدتُ معنى هذا الاحتمال للشَّيخ وليِّ الدِّين الملويِّ، وقوَّاه بحديث سمرةَ المذكور، ويقوِّيه ما ثبتَ عنه صلعم أنَّ مَن صلَّى العشاء في جماعةٍ كان كمَن قام نصفَ ليله؛ لأنَّ قيام اللَّيل يحصلُ بقيام بعضه، والعقد المذكورة تنحلُّ بقيام اللَّيل، فصار مَن صلَّى العشاءَ في جماعةٍ كمَن قام اللَّيلَ في حلِّ عُقد الشَّيطان.
          وخفِيَت المناسبة على الإسماعيليِّ فقال _أي: في حديث سمرة_: رفض القرآن ليس هو ترك الصَّلاة باللَّيل، ويتعجَّب مِن إغفاله آخر الحديث حيث قال فيه: ((وينام عن الصَّلاة المكتوبة)). انتهى مع بعض تلخيصٍ، واعترضه العينيُّ: بأنَّه لا قرينة لتقييدِ الصَّلاة بالعشاء، وظاهرُ الحديث يدلُّ على أنَّ العقد يكونُ عند النَّوم، سواءٌ صلَّى قبله أو لم يصلِّ، ويؤيِّد هذا ما رواه ابن زنجويه مِن طريق ابن لهيعة عن جابرٍ: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((ليسَ في الأرضِ نفسٌ مِن ذكرٍ وأنثى إلَّا وعلى رأسِه جريرٌ معقودٌ، فإنِ استيقظَ فتوضَّأ حُلَّت عقدةٌ، وإن استيقظَ وصلَّى حُلَّت العقدُ كلُّها، وإن لم يصلِّ ولم يتوضَّأ أصبحتِ العقدُ كما هي))، وذكر حديثَين آخرين يدلَّان أيضاً بظاهرِهِما لو صحَّت بأنَّه يمكن تقييد الثَّلاث بمَن لم يصلِّ العشاء، فإن صلَّاها لم يعقد عليه، فتدبَّر، وقال في ((الانتقاض)): هي مكابرةٌ.