نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل ذكر الله عز وجل

          ░66▒ (بابُ: فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ ╡) والمراد بالذِّكر هنا الإتيان بالألفاظ / الَّتي ورد التَّرغيب فيها والإكثار منها، مثل الباقيات الصَّالحات وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلَّا الله والله أكبر، وما يلحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك، والدُّعاء بخيريِّ الدُّنيا والآخرة، ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه، كقراءة القرآن بل هي أفضله، وقراءة الحديث ومدارسة العلم ومناظرة العلماء والشُّغل بالصَّلاة، ثمَّ الذِّكر يقع تارةً باللِّسان ويؤجر عليه النَّاطق ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يُقصد به غير معناه.
          وإن انضاف إلى النُّطقِ الذِّكرُ بالقلب فهو أكمل، وإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذِّكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النَّقائص عنه ازداد كمالاً، فإن وقع ذلك في عملٍ صالحٍ فرضٍ من صلاة أو جهاد أو غيرهما فقد ازداد الكمال، فإن صحَّح النِّية وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال.
          وقال الفخر الرَّازي: المراد بذكر اللِّسان الألفاظ الدَّالة على التَّسبيح والتَّحميد والتَّمجيد، والذِّكر بالقلب التَّفكر في أدلَّة الذَّات والصِّفات، وفي أدلَّة التَّكاليف من الأمر والنَّهي حتَّى يطلع على أحكامها وفي أسرار مخلوقات الله تعالى، والذِّكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقةً في الطَّاعات، ومن ثمَّة سمى الله الصَّلاة ذكراً فقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9].
          ونقل عن بعض العارفين قال: الذِّكر على سبعة أنحاءٍ:
          ذكر العينين: البكاء، وذكر الأذنين: الإصغاء، وذكر اللِّسان: الثَّناء، وذكر اليدين: العطاء، وذكر البدن: الوفاء، وذكر القلب: الخوف والرَّجاء، وذكر الرُّوح: التَّسليم والرِّضا.
          وقد ورد في فضل الذِّكر أحاديث أخرى غير ما ذكر في الكتاب في هذا الباب منها:
          ما أخرجه المصنف في أوائل «كتاب التَّوحيد» [خ¦7405] عن أبي هريرة ☺ قال: قال النَّبي صلعم : ((يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه / ذكرته في نفسي...)) الحديث.
          ومنها: ما أخرجه في «صلاة اللَّيل» [خ¦1142] من حديث أبي هريرة ☺ أيضاً رفعه: ((يعقدُ الشَّيطان)) الحديث، وفيه: ((فإن قام وذكر الله انحلَّت عقدةٌ)).
          ومنها: ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيدٍ ☻ مرفوعاً: ((لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلَّا حفَّتهم الملائكة وغشيتهم الرَّحمة ونزلت عليهم السَّكينة...)) الحديث.
          ومن حديث أبي ذرٍّ رفعه: ((أحبُّ الكلامِ على الله ما اصطفى لملائكته: سبحان ربِّي وبحمده...)) الحديث.
          ومن حديث معاوية رفعه أنَّه قال لجماعةٍ جلسوا يذكرون الله تعالى: ((أتاني جبريل وأخبرني أنَّ الله يباهي بكم الملائكة)).
          ومن حديث سَمُرة رفعه: ((أحبُّ الكلامِ إلى الله أربع: لا إله إلَّا الله، والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، لا يضرُّك بأيِّهن بدأت)).
          ومن حديث أبي هريرة رفعه: ((لأن أقولَ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلَّا الله والله أكبر أحبُّ إليَّ ممَّا طلعت عليه الشَّمس)).
          وأخرج التَّرمذي والنَّسائي وصحَّحه الحاكم عن الحارث بن الحارث الأشعري في حديثٍ طويلٍ وفيه: ((وأمركم أن تذكروا الله، وإنَّ مثَل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعاً حتَّى إذا أتى على حصنٍ حصين أحرز نفسه منهم، فكذلك العبدُ لا يحرز نفسه من الشَّيطان إلَّا بذكر الله تعالى)).
          وعن عبد الله بن بشيرٍ أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به؟ قال: ((لا يزالُ لسانك رطباً بذكر الله)) أخرجه التِّرمذي وابن ماجه وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم.
          وأخرجه ابن حبَّان نحوه أيضاً من حديث معاذ بن جبلٍ، وفيه أنَّه السَّائل عن ذلك.
          وأخرج التِّرمذي من حديث أنس رفعه: ((إذا مررتُم برياض الجنَّة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنَّة؟ قال: حلقُ الذِّكر)). وأخرج التِّرمذي وابن ماجه وصحَّحه الحاكم من حديث أبي الدَّرداء مرفوعاً: ((ألا أخبركُم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرٌ لكم من إنفاق الذَّهب والورق، / وخيرٌ من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكُم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله ╡)).
          وقد استشكل بما ورد في فضل المجاهد أنَّه كالصَّائم لا يفطرُ، والقائم لا يفترُ، وغير ذلك ممَّا يدلُّ على أفضليَّة غيره من أعمال الصَّالحة.
          وجمع بينهما بأنَّ المراد بذكر الله في حديث أبي الدَّرداء ☺ الذِّكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللِّسان والقلب بالتَّفكر في المعنى واستحضار عظمةِ الله تعالى، وأنَّ الَّذي يحصلُ له ذلك يكون أفضل من الَّذي يقاتل الكفَّار مثلاً من غير استحضارٍ لذلك، وأنَّ أفضليَّة الجهاد إنَّما هي بالنِّسبة إلى ذكر اللِّسان المجرَّد فمن اتَّفق له أنَّ جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره وكلُّ ذلك حال صلاته أو صيامه أو تصدُّقه أو قتاله الكفَّار مثلاً، فهو الَّذي بلغ الغاية القُصوى والعلم عند الله تعالى.
          وأجاب القاضي أبو بكر ابن العربي: بأنَّه ما من علمٍ صالحٍ إلَّا والذِّكر يشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند تصدُّقه أو صيامه مثلاً فليس عمله كاملاً، فصار الذِّكر أفضل الأعمال من هذه الحيثيَّة، ويشير إلى ذلك حديث: ((نيَّة المؤمن أبلغ من عمله)).