نجاح القاري لصحيح البخاري

باب أفضل الاستغفار

          ░2▒ (باب أَفْضَلِ الاِسْتِغْفَارِ) وسقط لفظ: ((باب)) في رواية أبي ذرٍّ، ووقع في «شرح» ابن بطَّال: <فضل الاستغفار>، وكأنَّه لما رأى الآيتين في أوَّل التَّرجمة، وهما دالَّتان على الحثِّ على الاستغفار ظنَّ أنَّ التَّرجمة لبيان فضيلة الاستغفار.
          ولكن حديث الباب يؤيِّد ما وقع عند الأكثر، وكأنَّ المصنِّف أراد إثبات مشروعيَّة الحثُّ على الاستغفار بذكر الآيتين، ثمَّ بيَّن بالحديث [خ¦6306] أولى ما يستعملُ من ألفاظه، وترجمَ بالأفضليَّة ووقع الحديث بلفظ السِّيادة، وكأنَّه أشارَ إلى أنَّ المراد بالسِّيادة: الأفضلية، ومعناها الأكثر نفعاً لمستعمله.
          والاستغفار: استفعالٌ من الغفران، وأصله من الغَفْر، وهو إلباسُ الشَّيء بما يصونُه من الدَّنس، ومنه قيل: اغفرْ ثوبك في الوعاء، فإنَّه أغفرُ للوسخ والغفران، والمغفرة من الله هو أن يصونَ العبد / من أن يمسَّه العذاب، ثمَّ الأفضل معناه: الأكثر ثواباً عند الله، فالثَّواب للمستغفرِ لا للاستغفار، فهو نحو: مكَّة أفضلُ من المدينة؛ أي: ثواب العابد فيها أفضلُ من ثواب العابدِ في المدينة، فالمراد المستغفر بهذا النَّوع من الاستغفار أكثر ثواباً من المستغفر بغيره، كذا قال الكرماني.
          ومن أوضحِ ما وقع في فضلِ الاستغفار ما أخرجه التِّرمذي وغيره من حديث عبدِ الله بن يسار عن أبيه مرفوعاً: ((من قال: أستغفرُ الله الَّذي لا إله إلَّا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه، غفرتُ ذنوبه وإن كان فرَّ من الزَّحف)). قال أبو نُعيم الأصفهاني: هذا يدلُّ على أنَّ بعضَ الكبائر يغفرُ ببعض العمل الصَّالح، وضابطه الذُّنوب الَّتي لا توجبُ على مرتكبها حكماً في نفسٍ ولا مال.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على المجرور قبله ({اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:10]) وفي نسخةٍ معتمدةٍ من رواية أبي ذرٍّ: <((واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً)) الآية> بالواو، والصَّواب: سقوط الواو؛ لأنَّ التِّلاوة: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}، وساق غيره الآية إلى قوله: <{أَنْهَاراً} [نوح:10-12]> هكذا {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي: سلوه المغفرة لذنوبكُم بإخلاصِ الإيمان.
          ({إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}) لم يزل غفاراً لذنوبِ من ينيبُ إليه ({يُرْسِلِ السَّمَاءَ}) أي: المطر، قال: إذا نزل السَّماء بأرض قومٍ رعيناهُ وإن كانوا غضاباً أو فيه إضمارٌ؛ أي: يرسل ماء السَّماء ({عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}) يحتمل أن يكون حالاً من السَّماء، ولم يؤنث؛ لأنَّ مفعالاً يستوي فيه المذكر والمؤنث، فتقول: رجلٌ مخدامةٌ ومطرابةٌ، وامرأةٌ مخدامة ومطرابة، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوفٍ؛ أي: إرسالاً مدراراً، وجزم {يرسل} جواباً للأمر ومعنى: {مدراراً} كثير الدَّر؛ أي: ذا غيثٍ كثير.
          ({وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}) يزدكم أموالاً وبنين ({وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ}) بساتين ({وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12]) جاريةً لمزارعكم وبساتينكم. قال مقاتل: لما كذبوا نوحاً عليه زماناً طويلاً حبسَ الله عنهم المطر، وأعقم أرحامَ نسائهم أربعين سنةً، فهلكت مواشيهم وزروعهم، / فصاروا إلى نوحٍ ◙، واستغاثوا به فقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] وفي هذه الآية دليلٌ على أنَّ الاستغفار يُستَنزل به الرِّزق والمطر.
          قال الشَّعبي: خرج عمرُ ☺ يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتَّى رجعَ فأُمطروا فقالوا: ما رأيناكَ استسقيتَ، فقال: لقد استسقيت بمجاديح السَّماء الَّتي ينزلُ بها المطر، ثمَّ قال: {استغفروا ربَّكم} إلى آخر ذلك. وشكا رجلٌ إلى الحسن الجُدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه جفاف بساتينه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إنَّ الله تعالى يقول في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:10] إلى آخر ذلك.
          هذا وكأنَّ المصنِّف ☼ لمَّح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن الَّذي ذكر، وفي الآية: حثٌّ على الاستغفار، وإشارةٌ إلى وقوع المغفرة لمن استغفر، وإلى ذلك أشار الشَّاعر بقوله:
لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ                     مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا
          ({وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] الآيَةَ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وساق غيره إلى قوله: <{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}> هكذا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} أي: فعلة متزايدة القبح، خارجة عمَّا أذن الله تعالى فيه، أو الفاحشة الزِّنا {أو ظلموا أنفسهم} باكتساب أي ذنب كان ممَّا يؤاخذ الإنسان به، أو الفاحشة الكبيرة، وظلم النَّفس هي الصَّغيرة كالقبلة واللمسة والنَّظرة. وقيل: فعلوا فاحشة فعلاً أو ظلموا أنفسهم قولاً <{ذَكَرُوا اللَّهَ}> بلسانهم، أو بقلوبهم ليبعثهم على التَّوبة، أو ذكروا وعيد الله أو عقابه فهو من باب حذف المضاف، أو قوله: <{فَاسْتَغْفَرُوا}> تفسير للمراد أو ذكروا العرض الأكبر على الله؛ أي: تفكَّروا في أنفسهم أنَّ الله يسألهم عمَّا فعلوا {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أي: فتابوا عنها؛ لقبحها نادمين على فعلها، وهذه حقيقة التَّوبة، فأمَّا الاستغفار / باللِّسان، فلا أثر له في إزالة الذَّنب، وقوله: <{لِذُنُوبِهِمْ}> [آل عمران:135] أي: لأجل ذنوبهم.
          <{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:135]> من مبتدأ {ويغفر} خبره، وفيه ضميرٌ يعود إلى {من} و{إلا الله} بدل من الضَّمير في {يغفر}، والاستفهام بمعنى النَّفي، والتَّقدير: ولا أحد يغفر الذُّنوب إلَّا الله، وفيه: تطييبٌ لنفوس العباد، وتنشيط للتَّوبة، وبعثٌ عليها، وردعٌ عن اليأس والقنوط، وبيانٌ لسعة رحمته، وقرب مغفرته من التَّائب، وإشعارٌ بأنَّ الذُّنوب وإن جلَّت فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم.
          وفي إسناد غفران الذُّنوب إلى نفسهِ المقدسة سبحانه وإثباته لذاته المقدَّسة بعد وجودِ الاستغفار دلالةٌ على وجوب ذلك قطعاً بحسب الوعد الَّذي لا خُلْف له.
          <{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}> جملة حالية من فاعل {استغفروا}؛ أي: استغفروا غير مصرِّين، أو الجملة منسوقة على {فاستغفروا}؛ أي: ترتَّب على فعلهم الفاحشة ذكر الله تعالى، والاستغفار لذنوبهم، وعدم الإصرار عليها، ويكون الجملة من قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثَّاني، وبين الحال وذي الحال على الأول.
          والمعنى: ولم يقيموا على فعلهم القبيح، وفيه: إشارةٌ إلى أنَّ مِن شرط قبول الاستغفار أن يقلعَ المستغفر عن الذَّنب، وإلَّا فالاستغفار باللِّسان مع التَّلبس بالذَّنب كالتَّلاعب.
          <{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}> حال من فاعل {فاستغفروا}، أو من فاعل {يصرُّوا على ما فعلوا} من الذُّنوب؛ أي: حال ما كانوا عالمين بكونها محرَّمة؛ لأنَّه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل، أمَّا العالم بالحرمة فلا يعذرُ، ومفعول {يعلمون} محذوف للعلم به تقديره: يعلمون أنَّ الله يتوب على من تاب، أو تركه أولى، أو أنَّها معصية، أو أنَّ الإصرار ضارٌّ، أو أنَّهم إن استغفروا غفر لهم.
          وقد ورد في حديثٍ حسن صفةُ الاستغفار المشار إليه أخرجه أحمدُ والأربعة، وصحَّحه ابن حبَّان من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ قال: حدَّثني أبو بكر الصِّديق ☺، وصدق أبو بكر سمعتُ النَّبي صلعم يقول: ((ما من رجلٍ يذنب ذنباً، ثمَّ يقوم فيتطهَّر فيحسن الطُّهور، ثمَّ يستغفر الله ╡ / إلَّا غفر له، ثمَّ تلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:135] الآية)).
          وقد ورد في فضل الاستغفار، والحثِّ عليه آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منها: حديث أبي سعيد ☺ رفعه: ((قال إبليسُ: يا رب لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزَّتي لا أزالُ أغفر لهم ما استغفروني)) أخرجه أحمد. وحديث أبي بكرٍ الصِّديق ☺ رفعه: ((ما أصرَّ من استغفر، ولو عادَ في اليوم سبعين مرَّة)) أخرجه أبو داود والتِّرمذي، وذكر السَّبعين للمبالغة، وإلَّا ففي حديث أبي هريرة ☺ الآتي في ((التَّوحيد)) مرفوعاً [خ¦7505]: ((إنَّ عبداً أذنب ذنباً فقال: ربِّ إنِّي أذنبت ذنباً فاغفرْ لي فغفرَ له...)) الحديث، وفي آخره: ((علم عبدِي أنَّ له ربًّا يغفر الذُّنوب، ويأخذ به، اعملْ ما شئت فقد غفرتُ لك)).