نجاح القاري لصحيح البخاري

باب التوبة

          ░4▒ (بابُ التَّوْبَةِ) سقط لفظ: ((باب)) في رواية أبي ذرٍّ أشار المصنِّف بإيراد هذين البابين، وهما الاستغفار والتَّوبة في أوائل ((كتاب الدُّعاء)) إلى أنَّ الإجابة تُسرِعُ إلى من لم يكن ملتبساً بالمعصيةِ، فإذا قدَّم التَّوبة والاستغفار قبل الدُّعاء كان أمكن لإجابته.
          وقال ابن الجوزي حين سُئل أسبِّح أو أستغفر الله؟: الثَّوبُ الوسخُ أحوجُ إلى الصَّابون من البخور.
          ثمَّ الاستغفار استفعالٌ من الغفران، وأصله: الغفر، وهو إلباس الشَّيء ما يصونه عمَّا يدنِّسه، وتدنيسُ كلِّ شيءٍ بحسبهِ، والغفران من الله للعبد أن يصونَهُ عن العذاب.
          والتَّوبة: ترك الذَّنب على أحد الأوجه، وفي الشَّرع: ترك الذَّنب لقبحه والنَّدم على فعله، أو أن يقول فعلت، ولكن أسأت، وقد أقلعت. انتهى من كلام الرَّاغب ملخصاً.
          وقال الجوهري: التَّوبة: الرُّجوع من الذَّنب، وكذلك التَّوب، وقال الأخفش: التَّوب جمع توبةٍ، وتاب إلى الله توبةً ومتاباً، وقد تاب الله عليه وفقه لها، واستتابه: سأله / أن يتوبَ.
          وقال القرطبيُّ في «المفهم»: اختلفت عبارات المشايخ فيها فقائل يقول: إنَّها النَّدم، وقائلٌ يقول: إنَّها العزم على أن لا يعود، وآخر يقول الإقلاع عن الذَّنب، ومنهم من يجمعُ بين الأمور الثَّلاثة وهو أكملها، ولا يكون تائباً من فعل ذلك شحًّا على ماله، أو لئلَّا يعيِّره النَّاس ولا يصحُّ التَّوبة الشَّرعية إلا بالإخلاص، ومن ترك الذَّنب لغير الله لا يكون تائباً بالاتِّفاق.
          وقال بعضُ المحقِّقين: هي اختيار ترك الذَّنب السَّابق حقيقةً أو تقديراً لأجل الله، وقال عبد الله بن المبارك: حقيقة التَّوبة لها ستُّ علامات: النَّدم على ما مضى، والعزم على أن لا يعودَ، ويؤدِّي كلَّ فرضٍ ضيَّعه، ويؤدِّي إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه من المظالم، ويذيبُ البدن الَّذي ربَّاه بالسُّحت والحرام بالهموم والأحزان حتَّى يلصق الجلد العظم، ثمَّ يُنشئَ بينهما لحماً طيباً إن هو نشأ، ويذيقَ البدن ألم الطَّاعة كما أذاقَه لذَّة المعصية، ثمَّ توبة العاصي إمَّا من حقِّ الله تعالى وإمَّا من حقِّ غيره، فحقُّ الله تعالى يكفي التَّوبة منه التَّركُ على ما تقدَّم، غير أنَّ منه ما لم يكتفِ الشَّرع فيه بالتَّرك فقط، بل انضاف إليه القضاءُ أو الكفَّارة، وحقُّ غير الله يحتاجُ إلى إيصالهِ لمستحقها كما تقدَّم، وإلَّا لم يحصل الخلاص من ضرِّ ذلك الذَّنب، لكن من لم يَقْدِر على إيصاله بعد ما بذل وسعه في ذلك، فعفو الله مأمولٌ، فإنَّه يضمن التَّبعات، ويبدل السَّيئات حسنات.
          وزاد بعضهم في شروط التَّوبة أموراً أخر منها: أن يفارقَ موضع المعصية، وأن لا يصل في آخر عمره إلى الغرغرة، وأن لا تطلع الشَّمس من مغربها، وأن لا يعودَ إلى ذلك الذَّنب، فإن عاد إليه كان توبته باطلةً.
          قال الحافظ العَسقلاني: الأوَّل: مستحبٌّ، والثَّاني والثَّالث: داخلان في حدِّ التَّكليف، والأخير عُزي للقاضي أبي بكر الباقلاني، ويردُّه الحديث الآتي بعد عشرين باباً [خ¦7505].
          (قَالَ قَتَادَةُ: تَوْبَةً نَصُوحاً. الصَّادِقَةُ: النَّاصِحَةُ) وصله عبد بن حُميد من طريق سفيان عن قتادة مثله، وقيل: سمِّيت ناصحةً؛ لأنَّ العبد ينصحُ نفسه فيها، ويقيها النَّار، فذكرت بلفظ المبالغة، وقرأ شعبة عن عاصم {نُصوحاً} [التحريم:8] _بضم النون_؛ أي: ذات نصحٍ، قال الرَّاغب: النُّصح: تحرِّي قولٍ أو فعل فيه صلاحٌ تقول: نصحتُ لك ودادي؛ / أي: أخلصته.
          وقال الأصمعيُّ: النَّاصح: الخالصُ من العسل وغيره، مثل النَّاصع، وكلُّ شيءٍ خلص فقد نصح. ونصحتُ الجلد والثَّوب؛ أي: خطته، والنَّاصح: الخياط، والنَّصاح: الخيط الَّذي يُخاط به، فيحتمل أن يكون قوله: توبةً نصوحاً، مأخوذاً من الإخلاص، ومن الإحكام، وقيل: معنى قوله: {توبةً نصوحاً} [التحريم:8]: توبةً ترفو خروقك في دينك، وترمُّ خلَلَك، كأنَّ العصيان يخرق والتَّوبةُ ترقعُ، ويجوز أن يرادَ توبة تنصح النَّاس؛ أي: تدعوهم إلى مثلها لظهورِ أثرها في صاحبها، واستعماله الجدَّ والعزيمة في العمل على مقتضاها.
          وحكى القرطبيُّ المفسِّر: أنَّه اجتمع له من أقوال العلماء في تفسير التَّوبة ثلاثة وعشرون قولاً:
          الأول: قول عمر ☺: أن يذنب الذَّنب، ثمَّ لا يرجع، وفي لفظ: ثمَّ لا يعود فيه، أخرجه الطَّبراني بسندٍ صحيحٍ، وعن ابن مسعودٍ ☺ مثله، أخرجه أحمد مرفوعاً. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زرِّ بن حُبيش عن أُبيِّ بن كعبٍ ☺ سأل النَّبي صلعم فقال: ((أن يندمَ إذا أذنب فيستغفر، ثمَّ لا يعود إليه)) وسنده ضعيفٌ جدًّا.
          الثَّاني: أن يبغضَ الذَّنب ويستغفرَ منه كلَّما ذكره، أخرجه ابنُ أبي حاتم عن الحسن البصري.
          الثَّالث: قول قتادة المذكور.
          الرَّابع: أن يخلص منها.
          الخامس: أن يصير من عدم قبولها على وَجَلٍ.
          السَّادس: أن لا يحتاج معها إلى توبةٍ أخرى.
          السَّابع: أن يشتملَ على خوف ورجاء ويدمن الطَّاعة.
          الثَّامن: مثله وزاد: أن يهاجرَ من أعانه عليه.
          التَّاسع: أن يكون ذنبه بين عينيه.
          العاشر: أن يكون وجهاً بلا قفاء، كما كان في المعصية قفاءً بلا وجه، ثمَّ سرد بقية الأقوال من كلام الصُّوفية بعباراتٍ مختلفة، ومعانٍ مجتمعة ترجع إلى ما تقدَّم، وجميع ذلك من المكملات لا من شرائط الصَّحة، والله أعلم.
          وقال الجوهري: نصحتك نصحاً ونصاحة، ويقال: نصحه ونصحَ له، وهو باللام أفصحُ، قال الله تعالى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] ورجلٌ ناصحُ الجيب؛ أي: نقيَّ القلب، وانتصحَ فلان؛ أي: قبل النَّصيحة.