نجاح القاري لصحيح البخاري

باب نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا؟

          ░26▒ (بابُ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ) لعدم تعاهدِهِ، وتعاطي أسبابهِ المقتضية لذلك (وَهَلْ يَقُولُ) الرجل (نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا) صورتُه صورة الاستفهام الإنكاري، لكن ليس الإنكار على الإتيان بقوله: نسيت آية كذا، بل هو للزَّجر عن تعاطِي أسباب النِّسيان المقتضية لذلك، ويحتمل أن ينزلَ المنع والإباحةُ على حالتين، فمن نشأ نسيانه على الاشتغالِ بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك؛ لأنَّ النسيان لم ينشأَ عن إهمال، وعلى ذلك يُحْمَلُ ما ورد من ذلك عن النَّبي صلعم من نسبة النسيان إلى نفسه، ومن نشأ نسيانُه عن اشتغالٍ بأمرٍ دنيوي، ولاسيَّما إن كان محظورًا امتنعَ عليه قول ذلك لتعاطيهِ أسباب النِّسيان.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطف على قوله: ((نسيان القرآن))، وفي نسخة: <╡> مخاطبًا لنبيِّه صلعم : ({سَنُقْرِئُكَ}) من الإقراء ({فَلاَ تَنْسَى}) أي: سنعلمك القرآن فلا تنساه ({إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7]) أن ينسخَه، / وهذا إشارة من الله تعالى لنبيِّه صلعم أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلتَ منه شيءٌ إلَّا ما شاء الله أن ينسخَه فيذهب به عن حفظهِ برفع حكمهِ وتلاوته، وكان رسول الله صلعم يعجل بالقراءة إذا لقيه جبريل ◙ فقيل: لا تَعْجَل فإن جبريلَ مأمورٌ بأن يقرأهُ عليك قراءةً مكرَّرة إلى أن تحفظَه فلا تنساهُ إلَّا ما شاء الله، فكلمة لا للنفي.
          وكأنَّ البُخاري مالَ إليه، وعليه الأكثر، وحاصلُه أنَّ الله تعالى أخبره أنَّه لا ينسى ما أقرأهُ إيَّاه، وقد قيل: إنَّ لا للنَّهي، وإنَّما وقع الاتساع في السين لتناسب رؤوس الآي كقوله: {السبيلا} [الأحزاب:67]، فَأَلِفُه للإطلاق؛ يعني: فلا تترك قراءته وتكريره فتنساهُ إلَّا ما شاء الله أن ينسيكَه برفع تلاوته للمصلحة.
          وسأل ابنُ كيسان النَّحْوي جُنَيدًا عنه فقال: لا تنسى العمل به (1)، فقال: مثلك يُصَدَّر.
          وقد اختُلِفَ في الاستثناء، فقيل: إلَّا ما قَضَى أن يَرْفَع تِلاوتَه كما مضى، وروي ذلك عن الحسنِ وقتادة، وروي عن ابن عبَّاس ☻ إلَّا ما أرادَ الله أن يُنْسِيَكَه ليسنَّ. وقال الفرَّاء: الاستثناء للتَّبرك وليس هناك شيءٌ استثني، وقيل: لما جُبلت عليه من الطِّباع البشريَّة لكن سيذكره بعد، واختُلِفَ في نسيان القرآن، فصرَّح النَّووي في «الروضة» بأن نسيانه أو شيءٌ منه كبيرة لحديث أبي داود: ((عُرِضَتْ علي ذنوبُ أمتي فلم أَرَ ذَنْبًا أعظم من سورة أو آية أوتيها رجل ثم أنسيها)).
          وأخرج أبو داود من طريق أبي العالية موقوفًا: كنَّا نعد من أعظم الذُّنوب أن يتعلَّم الرجل القرآن ثم ينامُ عنه حتى ينساه. واحتجَّ الرُّوياني لذلك بأنَّ الإعراض عن التِّلاوة يتسبَّب عنه نسيان القرآن، ونسيانُه يدلُّ على عدم الاعتناء به والتَّهاون بأمره، وسيجيءُ ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى [خ¦5038].


[1] في هامش الأصل: أي: لا تترك العمل به إلا ما أراد الله أن ينسخه فتترك العمل به. منه.