نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من قال: لم يترك النبي إلَّا ما بين الدفتين

          ░16▒ (بابُ مَنْ قَالَ: لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلعم إِلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ) أي: ما في المصحف، وليس المراد أنَّه نزل القرآن مجموعًا بين الدَّفتين، والدَّفَّة، بفتح الدال وتشديد الفاء: اللَّوح. وقال في «المغرب»: الدَّفَّة: الجنب، وكذلك الدَّف، ومنه: دفَّتا السَّرج للوحين الذين يقعان على جنبي الدَّابة، ودفَّتا المصحف: اللَّتان ضمتاه من جانبيه، والمراد به: هنا الجلدان اللَّذان بين جانبي المُصْحَف، والمراد ما جَمَعَه الصَّحابة من القُرآن ولم يَفُتْهُم شيءٌ منه بذهاب حَمَلَته، ولم يكتموا شيئًا منه، وذلك لأنَّه يخالف ما تقدَّم من جَمْعِ أبي بكر ☺، ثم عثمان ☺.
          وهذه الترجمةُ للردِّ على من زَعَم: أنَّ كثيرًا من القرآن ذهب لذهاب حملتهِ، وهو شيءٌ اختلقه الرَّوافض لتصحيحِ دعواهم الباطلة أنَّ التَّنصيص على إمامة علي ☺، واستحقاقهِ الخلافة عند موت النَّبي صلعم كان ثابتًا في القرآن، وأن الصَّحابة كتموه.
          وهذه دعوى باطلةٌ مردودةٌ؛ لأنَّهم لم يكتموا: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) وغيرها من الذي يتمسَّك به من يدَّعي إمامته كما لم يكتموا ما يُعارض ذلك.
          وقد تلطَّفَ المصنِّفُ في الاستدلال على الرَّافضة بما أخرجَه عن أحدِ أئمتهم الَّذي يدعون إمامته وهو محمَّد بنُ الحنفية، وهو ابنُ علي بن أبي طالب ☺، فلو كان هناك شيءٌ يتعلَّق بأبيه؛ لكان هو أحقُّ الناس بالاطلاع عليه، وكذلك ابنُ عبَّاس ☻ فإنَّه ابن عمِّ عليٍّ، وأشد النَّاس له لزومًا واطلاعًا على حاله.
          فإن قيل: ترك من الحديث أكثر من القرآن. فالجواب: أنَّ معناه: ما تركَ مَكتوبًا بِأَمْرِه إلَّا القرآن. فإن قيل: قد تقدَّم / في باب كتابة العلم [خ¦111] من حديث الشَّعبي عن أبي جُحَيفة قال: ((قلتُ لعلي ☺: هل عندكُم كتاب؟ قال: لا، إلَّا كتاب الله، أو فَهْمٌ أُعطيه رجل مسلمٌ، أو ما في هذه الصَّحيفة)). الحديث.
          فالجواب: أنَّه لعلَّها لم تكن مكتوبة بأمرِ رسول الله صلعم ، وقد يُجاب: بأنَّ بعضَ النَّاس كانوا يزعمون أنَّ رسولَ الله صلعم أوصى إلى عليٍّ ☺، فالسُّؤال هو عن شيءٍ يتعلَّق بذكر الإمامة، فقال: ما ترك شيئًا متعلِّقًا بذكر الإمامة إلَّا ما بين الدَّفتين من الآيات التي يُتَمَسَّكُ بها في الإمامة، وهذا حسنٌ.
          وفي «التلويح»: إلَّا ما بين الدَّفتين، يحتمل أنَّه ما ترك شيئًا من الدُّنيا، أو ما ترك عِلْمًا مسطورًا سوى القرآن العزيز، وأمَّا قصَّة أبي شاه فنادرةٌ.