نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أن رسول الله بعث سريةً فيها عبد الله قبل نجد

          3134- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسي، قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم / بَعَثَ سَرِيَّةً) وهي: طائفةٌ من الجيش أقصاها أربعمائة تُبْعَثُ إلى العدو (فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ) هو: ابن عمر ☻ . وصرَّح بذلك مسلم في روايته؛ فإنَّه أخرجه في المغازي عن يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع عن ابن عمر ☻ قال: ((بعث النَّبي صلعم سريةً وأنا فيهم)). الحديث.
          (قِبَلَ نَجْدٍ) بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: ناحية نجدٍ وجهتها، والنَّجْد، بفتح النون وسكون الجيم: اسمٌ خاص لما دون الحجاز ممَّا يلي العراق.
          وروي: أنَّ هذه السَّرية كانوا عشرة، فغنموا مائة وخمسين بعيراً، فأخذ رسول الله صلعم منها ثلاثين، وأخذوا عشرين ومائة، وأخذ كلُّ واحدٍ منهم اثني عشر بعيراً، ونُفِّل بعيراً.
          (فَغَنِمُوا إِبِلاً كَثِيراً) وفي رواية لمسلم: ((فأصبنا إبلاً وغنماً)) (فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ) أي: أنصباؤهم (اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً) والمراد أنَّه بلغ نصيب كلِّ واحدٍ منهم هذا القدر، وتوهَّم بعضهم: أنَّ ذلك جميع الأنصباء. قال النَّووي: وهو غلطٌ.
          (أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيراً، وَنُفِّلُوا) على صيغة المجهول، من التَّنفيل (بَعِيراً بَعِيراً) هكذا رواه مالك بالشَّك والاختصار، وإبهام الذي نفَّلهم.
          وقد وقع بيان ذلك في رواية ابن إسحاق عن نافع، عند أبي داود ولفظه: ((فخرجت فيها فأصبنا نَعَماً كثيرةً، وأعطانا أميرنا بعيراً بعيراً لكلِّ إنسانٍ، ثمَّ قدمنا على النَّبي صلعم ، فقسم بيننا غنيمتنا كلُّ رجلٍ منَّا: اثني عشر بعيراً بعد الخُمُس)).
          وأخرجه أبو داود أيضاً من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن نافع ولفظه: ((بعثنا رسول الله صلعم في جيش قِبَلَ نَجْدٍ، وانبعث سرية من الجيش، فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيراً، اثني عشر بعيراً، ونُفِّل أهلُ السَّرية بعيراً بعيراً، فكان سهمانهم ثلاثة عشر بعيراً ثلاثة عشر بعيراً)).
          وأخرجه ابن عبد البرِّ من هذا الوجه، وقال في روايته: إنَّ ذلك الجيش كان أربعة ألاف، وفي رواية: ((ونُفِّلوا بعيراً بعيراً، فلم يغيره رسول الله صلعم )).
          وقال ابن عبد البرِّ: اتَّفق جماعة رواة «الموطأ» / على روايته بالشَّك، إلَّا الوليد بن مسلم، فإنَّه رواه عن شعيب ومالكٍ جميعاً، فلم يشك وكأنَّه حمل رواية مالك على رواية شعيب، وكذا أخرجه أبو داود عن القَعْنَبي، عن مالك والليث، بغير شكٍّ.
          وقال ابن عبد البرِّ: وقال سائر أصحاب نافع: اثني عشر بعيراً من غير شكٍّ لم يقع الشَّك فيه إلَّا من مالكٍ، ثمَّ النَّفل زيادةٌ في القسم يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة، ومنه نفل الصَّلاة، وهو ما عدا الفرض.
          واختلف الرُّواة في القسم والتَّنفيل، هل كانا جميعاً من أمير ذلك الجيش، أو من النَّبي صلعم ، أو أحدهما من أحدهما؟ فرواية ابن إسحاق صريحةٌ في أنَّ التَّنفيل كان من الأمير، والقسم كان من النَّبي صلعم ، وظاهر رواية الليث عن نافعٍ عند مسلم: أنَّ ذلك صدر من أمير الجيش، وأنَّ النَّبي صلعم كان مقرراً لذلك ومجيزاً له؛ لأنَّه قال فيه: ولم يغيِّره النَّبي صلعم .
          وفي رواية عبد الله بن عمر أيضاً: ((نفَّلنا رسول الله صلعم بعيراً بعيراً)). وهذا يمكن أن يحمل على التَّقرير فتجتمع الرِّوايتان، قال النَّووي: معناه: أنَّ أمير السَّرية نفَّلهم، فأجازه النَّبي صلعم ، فجازت نسبته لكلٍّ منهما.
          واحتجَّ بهذا الحديث سعيد بن المسيَّب والحسن البصري والأوزاعي وأحمد وإسحاق في جواز التَّنفيل بعد سهامهم، قالوا: هذا ابن عمر ☻ يخبر أنَّهم قد نُفِّلوا بعد سهامهم، فلم يُنْكِرْ ذلك النَّبيُّ صلعم .
          وفي الحديث: أنَّ الجيش إذا انفرد منهم قطعةٌ فغنمت شيئاً كانت الغنيمة للجميع، قال ابن عبد البر: لا يختلف الفقهاء في ذلك؛ أي: إذا خرج الجيش جميعه، ثمَّ انفردت منه قطعة. انتهى.
          وليس المراد الجيش القاعد في بلاد الإسلام، فإنَّه لا يشارك الجيش الخارج إلى بلاد العدو، بل قال ابن دقيق العيد: إنَّ الحديث يستدلُّ به على أنَّ المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الإمام ينفرد بما يغنمه، قال: وإنَّما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريباً منهم يلحقهم غوثه وعونه لو احتاجوا. انتهى.
          وهذا القيد في مذهب مالك، / وقال إبراهيم النَّخعي: له أن ينفل السَّرية جميع ما غنمت دون بقية الجيش مطلقاً، وقيل: إنَّه انفرد بذلك، وفيه مشروعية التَّنفيل، ومعناه: تخصيص مَنْ له أثرٌ في الحرب بشيءٍ من المال، لكن خصَّه عمرو بن شعيب بالنَّبي صلعم دون من بعده.
          نعم وكَرِهَ مالك أن يكون بشرطٍ من أمير الجيش كأن يحرِّض على القتال، ويَعِدُ بأن ينفِّل الربع أو الثُّلث قبل القسم، واعتلَّ بأنَّ القتال حينئذٍ يكون للدُّنيا، قال: فلا يجوز مثل هذا. انتهى.
          وفي هذا ردٌّ على من حكى الإجماع على مشروعيَّته، وقد اختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة، أو من الخُمُس، أو من خُمس الخُمس، أو ما عدا الخمس؟ على أقوال، والثَّلاثة الأول في مذهب الشَّافعي، والأصحُّ عندهم: أنَّها من خُمس الخُمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك، وهو شاذٌّ عندهم.
          قال ابن بطَّال: وحديث الباب يردُّ على هذا القول؛ لأنهم نُفِّلوا نصف السُّدس، وهو أكثر من خُمس الخُمس، وهذا واضحٌ.
          وقد زاده ابنُ المنيِّر إيضاحاً فقال: لو فرضنا أنَّهم كانوا مائة؛ لكان قد حصل لهم ألف ومائتا بعير، ويكون الخمس من الأصل ثلاثمائة بعير وخمسها ستون، وقد نطقَ الحديث بأنَّهم نُفِّلوا بعيراً بعيراً، فيكون جملة ما نُفِّلوا مائة بعيرٍ، وإذا كان خُمس الخُمس ستين لم يف كله ببعيرٍ بعير لكلٍّ من المائة، وهكذا كيف ما فرضْتَ العَدَدَ.
          قال: وقد ألجأ هذا الإلزامُ بعضَهم، فادَّعى أنَّ جميع ما حصل للغانمين كان اثني عشر بعيراً، فقيل له: فيكون خمسها ثلاثة أبعرة، فيلزم أن تكون السرية كلُّها ثلاثة رجالٍ، كذا قال ابن المنيِّر، وهو سهوٌ على التَّفريع المذكور، بل يلزم أن يكون أقل من رجل بناءً على أنَّ النفل من خُمس الخُمس، وقال ابن التِّين: قد انفصل من قال من الشَّافعية: بأنَّ النَّفل من خُمس الخُمس بأوجه:
          منها: أنَّ الغنيمة لم تكن كلها أبعرة بل كان فيها أصناف، فيكون التَّنفيل وقع من بعض الأصناف دون بعض.
          ثانيها: أن يكون نفلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها، فضمَّ هذا إلى هذا، / فلذلك زادت العِدَّة.
          ثالثها: أن يكون نفل بعض الجيش دون بعضٍ.
          قال: وظاهر السِّياق يردُّ هذه الاحتمالات، قال: وقد جاء أنَّهم كانوا عشرة، وأنَّهم غنموا مائة وخمسين بعيراً، فخرج منها الخُمس وهو ثلاثون وقسم عليهم البقية، فحصل لكلِّ واحدٍ اثنا عشر، ثمَّ نُفِّلوا بعيراً بعيراً، فعلى هذا فقد نُفِّلوا ثُلُث الخُمس.
          قال الحافظ العسقلاني: إن ثبتَ هذا لم يكن فيه ردٌّ للاحتمال الأخير؛ لأنَّه يحتمل أن يكون الذين نُفِّلوا ستة من العشرة، والله أعلم.
          وقال الأوزاعي وأبو ثور وغيرهم: النَّفل من أصل الغنيمة، وقال مالكٌ وطائفة: لا نفل إلَّا من الخُمس، وقال الخطَّابي: أكثر ما روي من الأخبار يدلُّ على أنَّ النفل من أصل الغنيمة، والذي يقرب من حديث الباب: أنَّه كان من الخمس؛ لأنَّه أضاف الاثني عشر إلى سهامهم، فكأنَّه أشار إلى أنَّ ذلك قد تقرَّر لهم استحقاقه من الأخماس الأربعة الموزعة عليهم، فيبقى النَّفل من الخمس.
          قال الحافظ العسقلاني: ويؤيِّده ما رواه مسلم في حديث الباب من طريق الزُّهري قال: بلغني عن ابن عمر ☻ قال: ((نفل رسول الله صلعم سرية بعثها قِبَلَ نَجْدٍ من إبل جاءوا بها نفلاً سوى نصيبهم من المغنم))، لم يسق مسلمٌ لفظه وساقه الطَّحاوي.
          ويؤيِّده أيضاً: ما رواه مالك عن عبد ربه بن سعيد، عن عَمرو بن شعيب: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((ما لي ممَّا أفاء الله عليكم إلَّا الخُمس، وهو مردودٌ عليكم)).
          ووصله النَّسائي من وجهٍ آخر حسن، عن عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، وأخرجه أيضاً بإسنادٍ حسن من حديث عبادة بن الصَّامت ☺، فإنَّه يدلُّ على أنَّ ما سوى الخُمس للمقاتلة، وروى مالكٌ أيضاً عن أبي الزِّناد: أنَّه سمع سعيد بن المسيَّب قال: كان النَّاس يعطون السَّلب من الخمس.
          قال الحافظ العسقلاني: وظاهره: اتِّفاق الصَّحابة على ذلك، وقال ابن عبد البر: إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لا من رأس / الغنيمة، وإن انفردت قطعةٌ، فأراد أن ينفِّلها ممَّا غنمت دون سائر الجيش، فذلك من غير الخُمس بشرط أن لا يزيد على الثُّلث. انتهى.
          وهذا الشَّرط قال به الجمهور، وقال الشَّافعي: لا يتحدَّد، بل هو راجعٌ إلى ما يراه الإمام من المصلحة، ويدلُّ له قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] ؛ أي: مفوض إليه أمرها، والله تعالى أعلم.
          وقال الأوزاعي: لا ينفل ذهباً ولا فضة، وخالفه الجمهور، وحديث الباب من رواية ابن إسحاق يدلُّ لما قالوا، واستُدِلَّ به على تعيين قسمة أعيان الغنيمة لا أثمانها، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أن يكون وقع ذلك اتفاقاً أو بياناً للجواز.
          وعند المالكيَّة فيه أقوالٌ: ثالثها: التَّخيير، وفيه: أنَّ أمير الجيش إذا فعل مصلحة لم ينقضها الإمام.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: ((ونُفِّلوا بعيراً بعيراً)). قال الخطَّابي: النفل: عطية يخصُّ بها الإمام من أبلى بلاءً حسناً، وسعى سعياً جميلاً، كالسَّلب إنَّما يُعْطَى للقاتل لغنائه وكفايته.