نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في بيوت أزواج النبي وما نسب من البيوت إليهن

          ░4▒ (باب / مَا جَاءَ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلعم ، وَمَا نُسِبَ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ).
          قال ابن المنيِّر: غرضه بهذه الترجمة أن يبيِّن أنَّ بهذه النسبة تحقُّق دوام استحقاقهنَّ للبيوت ما بقين؛ لأنَّ نفقتهنَّ وسكناهنَّ من خصائص النَّبي صلعم ، والسرُّ فيه حبسهنَّ عليه.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجر عطف على قوله: في بيوت أزوج النَّبي صلعم ({وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]) هذا بعض آيةٍ في سورة الأحزاب، وتمامها: ({وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}) من وَقَر يَقِر وقاراً، أو من قَرَّ يَقَرُّ حذفت الأولى من رائي اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغنى عن همزة الوصل ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قَرَرْت أَقَرُّ وهو لغةٌ فيه. ويحتمل أن يكون من قَار يَقار إذا اجتمع.
          {وَلَا تَبَرَّجْنَ} أي: ولا تتبخترن في مشيكنَّ {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} تبرُّجاً مثل تبرُّج النِّساء في أيام الجاهليَّة القديمة، قيل: هي ما بين آدم ونوح ♂، وقيل: الزمان الذي ولد فيه إبراهيم ◙ كانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي وسط الطَّريق تعرض نفسها على الرجال.
          وقيل: ما بين إدريس ونوح ♂، وقيل: زمن داود وسليمان ♂، والجاهليَّة الأخرى ما بين عيسى ومحمد ╨، ويجوز أن تكون الجاهليَّة الأولى: جاهليَّة الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى: جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأنَّ المعنى ولا تحدثنَ بالتبرُّج جاهلية في الإسلام تتشبَّهن بها بأهل جاهلية الكفر، ويعضدُه قوله صلعم لأبي الدرداء: ((إنَّ فيكَ جاهليَّة)) قال: جاهليَّة كفر أو إسلام، قال: ((جاهليَّة الكفر)).
          {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائر ما أمركنَّ به ونهاكنَّ عنه، أمرهنَّ أمراً خاصًّا بالصلاة والزكاة، ثمَّ جاء به عامًّا في جميع الطاعات؛ لأنَّ هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من اعتنى بهما حقَّ اعتناء جرَّتاه إلى ما وراءهما {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} الذنب المدنَّس لعرضكم، وهو تعليلٌ لأمرهنَّ ونهيهنَّ على الاستئناف يعني: إنما نهاهنَّ وأمرهن ووعظهنَّ لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلعم المآثم، وليتصوَّنوا عنها بالتقوى {أَهْلَ الْبَيْتِ} نصب على النداء أو المدح {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] عن المعاصي بالتصوُّن عنها، استعار / للذنوب الرجس، وللتَّقوى الطهر؛ لأنَّ عرض المقترف للمقبحات يتلوَّث بها ويتدنَّس كما يتلوَّث بدنه بالأرجاس، وأمَّا المحسنات فالعرض معها نقيٌّ مصونٌ كالثَّوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة ما ينفِّر أولي الألباب، عمَّا كرهه الله تعالى لعباده ونهاهم عنه ويرغِّبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به.
          ثمَّ المراد بأهل البيت أزواج النَّبي صلعم ورضي عنهن؛ لأنهنَّ في بيته، وهو قول الكلبي ومقاتل وعكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس ☻ ، وحجتهم في ذلك ما تقدَّم وما تأخَّر من خطابهنَّ، وإنَّما ذكر الخطاب في قوله: {عَنْكُمْ} {وَيُطَهِّرَكُمْ} لأنَّ رسول الله صلعم كان فيهنَّ فغلب المذكر.
          وقال آخرون: هذا خاصٌّ في النَّبي صلعم وعلي وفاطمة والحسن والحسين ♥ ، وهو قول أبي سعيدٍ الخدريِّ ☺ وإليه ذهب الشِّيعَة.
          ({لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53]) وهذا أيضاً بعض آيةٍ في سورة الأحزاب وتمامها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} في معنى الظرف؛ أي: إلَّا وقت أن يؤذن لكم أو حال؛ أي: إلَّا مأذوناً لكم {إِلَى طَعَامٍ} متعلِّق بيؤذن؛ لأنَّه متضمِّنٌ معنى يُدْعَى للإشعار بأنَّه لا يحسن الدُّخول على الطَّعام من غير دعوةٍ وإن أذن كما أشعر به قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي: غير منتظرين وقته، أو إدراكه حال من فاعل {لَا تَدْخُلُوا}، ووقع الاستثناء على الوقت والحال معاً؛ كأنَّه قال: لا تدخلوا بيوت النَّبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلَّا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحيَّنون طعام رسول الله صلعم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه.
          ومعناه: لا تدخلوا يا أيُّها المتحيِّنون للطعام إلَّا أن يُؤذن لكم إلى طعامٍ غير ناظرين إيَّاه، وإلَّا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصاً لما جاز لأحدٍ أن يدخل بيوت النَّبي إلَّا أن يؤذن له إذناً خاصًّا، وهو الإذن إلى الطَّعام فحسب، ويحتمل أن يكون قوله:{غَيْرَ نَاظِرِيْنَ} حالاً من المجرور في {لَكُمْ}، وعن ابن أبي عَبْلة أنَّه قرأ: (▬غيرِ ناظرين↨) بالجر / صفة طعام، فيكون جارياً على غير من هو له بلا إبراز الضمير، وهو غير جائزٍ عند البصريين، وإنَّما يجوز لو أبرز الضمير، وقيل: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي، وقد أمال حمزة والكسائي: ({إِنَاهُ}[الأحزاب:53])؛ لأنَّه مصدر أتى الطَّعام إذا أدرك كقولك: قلاه قِلى، ومنه قوله تعالى: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] بالغ أناه، ويقال: أناه وقته؛ أي: غير ناظرين وقت الطَّعام وساعة أكله، كما أشير إليهما آنفاً.
          {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] تفرَّقوا ولا تمكثوا. روي أنَّ رسول الله صلعم أولم على زينب ♦ بتمرٍ وسويقٍ وشاةٍ، وأمر أنساً ☺ أن يدعو بالناس فترادفوا أفواجاً يأكلُ فوج فيخرج، ثمَّ يدخلُ فوج إلى أن قال: يا رسول الله دعوت حتَّى ما أجد أحداً أدعوه فقال: ((ارفعوا طعامكُم)) وتفرَّق الناس وبقي ثلاثة نفرٍ يتحدَّثون فأطالوا، فقام رسول الله صلعم ليخرجوا فانطلق إلى حجرة عائشة ♦ فقال: ((السَّلام عليكم يا أهل البيت))، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك وطاف بالحجرات فسلَّم عليهنَّ، ودعونَ له، ورجع فإذا الثلاثة جلوسٌ يتحدَّثون، وكان رسول الله صلعم شديد الحياء فتولَّى فلمَّا رأوه متولِّياً خرجوا فرجع ونزلت: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} نهوا عن أن يطيلوا الجلوس؛ يستأنسُ بعضهم ببعضٍ لأجل حديث يحدِّثه، أو عن أن يستأنسوا أهل البيت، واستئناسه: تسمعه وتوجسه، وهو مجرور عطف على ناظرين، وقيل: هو منصوب بفعل مقدَّر؛ أي: ولا تدخلوا أو: ولا تمكثوا مستأنسين {إِنَّ ذَلِكُمْ} اللبث {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} لتضييق المنزل عليه وعلى أهله واشتغاله فيما لا يعنيه {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} فيه تقدير المضاف؛ أي: من إخراجكم بدليل قوله تعالى: {واللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} يعني: أنَّ إخراجكم حقٌّ ما ينبغي أن يُستَحْيَى منه، فلذلك أمركم الله بالخروج، ولما كان الحياء ممَّا يمنع الحيِيَّ من بعض الأفعال، / قيل: لا يستحيي من الحقِّ بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه تركَ الحَيي منكم، وهذا أدب أدَّب الله به الثُّقلاء. وعن عائشة ♦: حسبك في الثُّقلاء أنَّ الله لم يحتملهم. وقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً} حاجةً وشيئاً ينتفع به، والضمير في سألتموهنَّ لنساء النَّبي صلعم ، ولم يذكرن لأنَّ الحال ناطقةٌ بذكرهنَّ {فَاسْأَلُوهُنَّ} المتاع {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} قيل: إنَّ عمر ☺ كان يحبُّ ضرب الحجاب عليهنَّ محبَّةً شديدةً، وكان يذكره كثيراً ويودُّ أن ينزل فيه وكان يقول: لو أُطاع فيكنَّ ما رَأَتْكُنَّ عينٌ، وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرتَ أمَّهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت.
          وروي: أنَّه مرَّ عليهنَّ وهنَّ مع النِّساء في المسجد، فقال: لئن احتجبتنَّ فإنَّ لكنَّ على النِّساءِ فضلاً، كما أنَّ لزوجكنَّ على الرجال الفضل، فقالت زينب: يا ابنَ الخطَّاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فلم يلبثوا إلَّا يسيراً حتَّى نزلت.
          وقيل: إنَّ رسول الله صلعم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يدُ رجلٍ منهم يدَ عائشة ♦ فكره النَّبي صلعم ذلك فنزلت: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} من الخواطر الشَّيطانيَّة.
          وذُكِرَ أنَّ بعضَهم قال: أنُنْهَى أن نكلِّم بنات عمِّنا إلَّا من وراء حجاب لئن مات محمداً لأتزوَّجنَّ فلانة، فأعلم الله أنَّ ذلك محرَّم فقال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أي: وما صحَّ لكم إيذاء رسول الله صلعم وفعل ما يكرهه، ولا نكاحَ أزواجه من بعد وفاته وفراقه.
          وخصَّ التي لم يدخل بها لما روي: أنَّ أشعث بن قيس تزوَّج المستعيذة في أيَّام عمر ☺ فهمَّ برجمها، فأخبر بأنَّه صلعم فارقها قبل أن يمسَّها فتركها من غير نكير.
          {إِنَّ ذَلِكُمْ} يعني: إيذاءه ونكاح نسائه {كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب:53] ذنباً عظيماً. وفيه: تعظيمٌ من الله لرسوله وإيجاب حرمته حيًّا وميتاً، وإعلامه بذلك ممَّا طيَّب به نفسه وسرَّ قلبه واستغزر شكره، فإنَّ نحو هذا ممَّا يحدث به الرجل نفسه ولا يُخلي منه فكره، ومن النَّاس من يفرط غيرته على حرمته / حتَّى يتمنى لها الموت لئلا تُنْكَحَ من بعده.
          وعن بعض الفتيان أنَّها كانت له جاريةٌ لا يرى الدنيا بها شغفاً واستهتاراً، فنظر إليها ذات يوم فتنفَّس الصعداء وانتحب فَعَلَا نحيبُه ممَّا ذهب به فكرُه هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتَّى قتلها؛ تصوُّراً لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غيره.
          وعن بعض الفقهاء: أنَّ الزوج الثاني في هدم الثلاث مِمَّا يجري مجرى العقوبة، فصين رسول الله عما يلاحظ ذلك.
          {إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً}[الأحزاب:54] من نكاحهنَّ على ألسنتكم {أَوْ تُخْفُوهُ}في صدوركم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب:54] فيعلم ذلك فيعاقبكم به، وفي التَّعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويلٍ، ومبالغة في الوعيد؛ لأنَّه على هذه الطريقة أهول وأجزل.