نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من لم يخمس الأسلاب

          ░18▒ (باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأَسْلاَبَ) أي: من لم ير بتخميس الأسلاب، وهو جمع سَلَب، بفتحتين، على وزن فَعَل بمعنى مفعول؛ أي: مَسْلُوبٌ، وهو ما يأخذه أحدُ الفريقين في الحرب من قرنه ممَّا يكون عليه ومعه من سلاحٍ وثيابٍ ودابة وغيرها، وعن أحمد: لا تدخل الدَّابة، وعن الشَّافعي: يختصُّ بأداة الحرب.
          (وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلاً) أي: مشارفاً للقتل؛ لأنَّ قتل القتيل لا يتصوَّر نحو: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ؛ أي: الضَّالين الصَّائرين إلى التَّقوى، / أو هو القتيل بهذا القتل المستفاد من لفظ قتل لا بقتل سابق.
          (فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَ) ليس هذا من لفظ الحديث، فإنَّه أخرجه الطَّحاوي، وقال: حدَّثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: حدَّثنا أبو داود، عن حمَّاد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنسٍ ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال يوم حنين: ((من قَتَلَ قتيلاً فله سَلَبه)) فقتل أبو طلحة يومئذٍ عشرين رجلاً فأخذ أسلابهم.
          وأخرجه أبو داود أيضاً في «سننه»، ولكن لفظه: ((من قَتَلَ كافراً فله سَلَبُه))، وأراد به أنَّ السَّلب لا يُخْمَّس، ويروى: ((من غير خُمُس)) بضمتين، وخُمْس بسكون الميم.
          وقوله: (وَحُكْمِ الإِمَامِ فِيهِ) عطفٌ على قوله: ((من لم يُخَمِّس)) وأشار بهذه التَّرجمة إلى الخلاف في المسألة وهو شهيرٌ، وإلى ما تضمَّنته التَّرجمة ذهب الأكثرون، وهو أنَّ القاتل يستحقُّ السَّلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك: ((من قتل قتيلاً فله سلبه)) أو لم يَقُلْ ذلك.
          وهو ظاهر حديث أبي قتادة ثاني حديثي الباب، وقالوا: إنَّه فتوى من النَّبي صلعم ، وإخبارٌ عن الحكم الشَّرعي، وهو قول الشَّافعي وأحمد وابن جرير وجماعةٌ من أهل الحديث، قالوا: كل شيءٍ من الغنيمة يُخَمَّس إلَّا السَّلب فإنَّه لا يُخَمس. وعن مالكٍ: أنَّ الإمام مخيَّر فيه إن شاء خمَّسه، وإن شاء لم يُخَمِّسه، واختاره القاضي إسماعيل بن إسحاق، وعن إسحاق بن راهويه: إذا كثرت الأسلاب تُخَمَّس، وهو مرويٌّ عن عمر بن الخطَّاب ☺. وقال الثَّوري ومكحول والأوزاعي: يُخَمَّس مطلقاً، وهو قولٌ عن مالكٍ وعن الشَّافعي، وهو رواية عن ابن عبَّاس ☻ ، وتمسكوا بعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، ولم يستثن شيئاً.
          وقال الزُّهري: عن القاسم بن محمد، عن ابن عبَّاس ☻ : السَّلب من النَّفل، والنفل يُخَمَّس. وقال ابن قدامة: السَّلب للقاتل إذا قَتَلَ في كلِّ حالٍ إلَّا أن ينهزمَ العدو، وبه قال أبو ثور وأبو داود بن المنذر، وهو قول عن الشَّافعي أيضاً.
          وقال مسروق: إذا التقى الزَّحفان فلا سَلَب له إنَّما هو النَّفل قبله وبعده ونحوه قول نافعٍ، وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم: السَّلب للقاتل ما لم تمتدَّ الصُّفوف بعضها إلى بعضٍ، فإذا كان كذلك فلا سلب لأحدٍ.
          وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمَّد: السَّلب من غنيمة الجيش حكمه حكم سائر الغنيمة إلَّا أن يقول الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه، فحينئذٍ يكون له. وقال ابن قدامة: وبه قال مالكٌ / وقال: قال أحمد: لا يعجبني أن يأخذ السَّلب إلَّا بإذن الإمام، وهو قول الأوزاعي، وقال ابن المنذر: قال الشَّافعي: له أخذه بغير إذنه، واحتجَّ الأكثر لقولهم: للقاتل أن يأخذَ السَّلب من رأس الغنيمة بغير إذن الإمام بقوله صلعم : ((من قَتَلَ قتيلاً فله سلبه)) فإنَّه خصَّص عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41].
          وتُعُقِّب: بأنَّه صلعم لم يقل: ((مَنْ قُتِل قتيلاً فله سَلَبه)) إلَّا يوم حنين، قال مالكٌ: لم يبلغني ذلك في غير حنينٍ. وأجاب الشَّافعي وغيره: بأنَّ ذلك حُفِظَ عن النَّبي صلعم في عدَّة مواطن:
          منها: يوم بدرٍ، كما في أوَّل حديثي الباب. ومنها: حديث حاطب بن أبي بلتعة: ((أنَّه قتل رجلاً يوم أحد فسلَّم له رسول الله صلعم سلبه))، أخرجه البيهقي.
          ومنها: حديث جابرٍ ☺: ((أنَّ عقيل بن أبي طالبٍ قتل يوم مؤتة رجلاً فنفله النَّبي صلعم سلبه))، ثمَّ كان ذلك مقرراً عند الصَّحابة ♥ ، كما روى مسلم من حديث عوف بن مالك في قصَّته مع خالد بن الوليد، وإنكاره عليه أخذ السَّلب من القاتل، الحديث بطوله.
          وكما روى الحاكم والبيهقي بإسنادٍ صحيحٍ عن سعد بن أبي وقَّاص: ((أنَّ عبد الله بن جحش قال يوم أحدٍ: تعال بنا ندعو، فدعا سعد فقال: اللهمَّ ارزقني رجلاً شديداً بأسه فأقاتله ويقاتلني، ثمَّ ارزقني عليه الظَّفر حتَّى أقتله وآخذ سلبه))، الحديث.
          وكما روى أحمد بإسنادٍ قويٍّ عن عبد الله بن الزُّبير قال: ((كانت صفية في حصن حسَّان بن ثابت يوم الخندق))، فذكر الحديث في قصَّة قتلها اليهودي، وقوله لحسان: ((انزل فاسلبه)) فقال: ما لي بسلبه حاجةً.
          وكما روى ابن إسحاق في «المغازي» في قصَّة قتل علي عمروَ بن عبد ودِّ يوم الخندق أيضاً، وقال له عمر ☺: ((هلا سلبتَه درعه، فإنَّه ليس للعرب خيرٌ منها))، فقال: ((إنَّه اتقاني بسوءته)).
          وأيضاً فالنَّبي صلعم إنَّما قال ذلك يوم حنين بعد أن فرغَ من القتال، كما هو صريحٌ في ثاني حديثي الباب حتَّى قال / مالكٌ: يكره للإمام أن يقول: من قتل قتيلاً فله سلبه؛ لئلَّا يضعف ثبات المجاهدين، ولم يقل النَّبي صلعم ذلك إلَّا بعد انقضاءَ الحرب. وعن الحنفيَّة: لا كراهة في ذلك، وإذا قاله قبل الحرب، أو في أثنائها استحقَّ القاتل، والله تعالى أعلم.