نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول}

          ░7▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تعالَى: {فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]) والآية في سورة الأنفال، وهي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} ما موصولة، وقوله: {مِنْ شَيْءٍ} بيان لها؛ أي: الذي أخذتموه من الكفار قهراً ممَّا يقع عليه اسم الشَّيء حتَّى الخيطَ والمخيط {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} مبتدأ خبره محذوفٌ تقديره: فحقٌّ أو فواجبٌ أنَّ لله خمسه، وروى الجعفي عن أبي عمرو: (▬فَإِنَّ لله↨) بالكسر، وتقويه قراءة النَّخعي: (▬فلله خمسه↨)، والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب كأنَّه قيل: فلا بدَّ من ثبات الخمس فيه، ولا سبيل إلى الإخلال به والتَّفريط من حيث إنَّه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحدٍ من المقدرات كقولك: ثابت أو واجبٌ أو حقٌّ أو لازم وما أشبه ذلك كان أقوى لإيجابه من النَّص على واحدٍ، وقرئ: (▬خُمْسَه↨) بالسكون {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] والغنيمة هي: المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والرِّكاب، والفيء: ما أخذ منهم بغير ذلك كالأموال التي يُصالَحون عليها أو يتوفون عنها ولا وارث لهم والجزية والخراج ونحو ذلك.
          والجمهور على أنَّ ذكر الله للتَّعظيم، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] والمراد: قسم الخمس على الخمسة المعطوفين، ويحتمل أن يكون ذكره لإيجاب سهمٍ يصرف إلى وجهٍ من وجوه القرب، وأن يراد بقوله: {فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ} أنَّ من حقِّ الخمس أن يكون متقرباً به إليه تعالى لا غير، ثمَّ خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلاً لها على غيرها، كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، فعلى الاحتمال الأول مذهب الإمامين أبي حنيفة والشَّافعي، وعلى الثَّاني ما قال أبو العالية: إنَّه يقسم على ستَّة أسهمٍ: سهم لله تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة.
          وعنه: كان رسول الله صلعم يأخذ الخمس فيضربُ بيده فيأخذ منه قبضةً فيجعلها للكعبة وهو سهمٌ لله ثمَّ يَقْسِمُ ما بقي على خمسة.
          وقيل: إنَّ سهم الله لبيت المال، وعلى الثَّالث مذهب مالك بن أنس، وعن ابن عبَّاس ☻ أنَّه كان يُقْسَمُ على ستَّة: لله وللرسول سهمان، وسهمٌ لأقاربه حتَّى قبض / فأجرى أبو بكرٍ ☺ الخمس على ثلاثة.
          وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء ♥ ، وروي أنَّ أبا بكر ☺ منع بني هاشم الخمس وقال: ((إنَّما لكم أن يُعْطَى فقيرُكم ويُزَوَّجَ أيُّمكم، ويُخدم من لا خادمَ له منكم، فأمَّا الغني منكم، فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يُعْطَى من الصَّدقة شيئاً ولا يتيم موسر)).
          وعن زيد بن علي ☺ كذلك قال: ليس لنا أن نبني به قصوراً ولا أن نركب منه البراذين، وقيل: الخُمُس كلُّه للقرابة، وعن عليٍّ ☺ أنَّه قيل له: إنَّ الله تعالى قال: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} فقال: أيتامنا ومساكيننا، وعن الحسن في سَهْم رسول الله صلعم أنَّه لوليِّ الأمر من بعده.
          والحاصل أنَّهم قد اختلفوا في قِسْمة الخُمس، فعند أبي حنيفة ☼ أنَّها كانت في عهد رسول الله صلعم على خمسة أسهمٍ: سهمٌ لرسول الله صلعم ، وسهمٌ لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل استحقُّوه حينئذٍ بالنُّصرة والمظاهرة: لما روي عن عثمان وجبير بن مطعم ☻ أنَّهما قالا لرسول الله صلعم : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهُم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيت إخواننا بني المطَّلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنَّما نحن وهم بمنزلةٍ واحدةٍ، فقال صلعم : ((إنَّهم لم يفارقونا في جاهليةٍ ولا إسلام؛ إنَّما بنو هاشم وبنو المطَّلب شيءٌ واحدٌ وشبَّك بين أصابعه)).
          وثلاثة أسهمٍ: لليتامى والمساكين وابن السَّبيل، وأمَّا بعد رسول الله صلعم فسهمه ساقطٌ بموته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنَّما يُعْطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يُعْطَى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السَّبيل.
          وأمَّا عند الشَّافعي فيقسم على خمسة أسهمٍ: سهمٌ لرسول الله صلعم يُصْرف إلى من كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين / كعُدَّة الغزاة من الكراع والسِّلاح ونحو ذلك، وسهمٌ لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذَّكر مثل حظِّ الأنثيين، والباقي للفرق الثَّلاث.
          وعند مالك بن أنس: الأمر فيه مفوَّض إلى الإمام إن رأى قَسَمَهُ بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضَهم دون بعضٍ، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال: يقسم أسداساً، ويصرف سهم الله إلى الكعبة على ما تقدَّم، ثمَّ ذوو القربى بنو هاشم وبنو المطلب لمَّا تقدَّم آنفاً وقيل: بنو هاشم وحدهم. وقيل: جميع قريش والغني والفقير فيه سواء، وقيل: هو مخصوصٌ بفقرائهم كسَهم ابن السَّبيل، وقيل: الخُمس كلُّه لهم، والمراد: باليتامى والمساكين وابن السَّبيل مَن كان منهم والعطف للتَّخصيص.
          وعن الكلبي أنَّ الآية نزلت ببدرٍ، وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بثلاثة أشهر وثلاثة أيامٍ للنَّصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة.
          (يَعْنِي: لِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ) هذا تفسيرٌ من البخاري لقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يعني: للرَّسول قسمته لا أنَّ سهماً منه له. وقال شارح التَّراجم: مقصودُ البخاري ترجيح قول من قال: إنَّ النَّبي صلعم لم يملك خُمس الخُمس، وإنَّما كان إليه قسمته فقط.
          قال العينيُّ: وفي هذا الباب اختلافٌ للمفسرين فقال بعضُهم: لله نصيب يُجْعل في الكعبة، فعن أبي العالية الرِّياحي: كان رسول الله صلعم يُؤتى بالغنيمة فيَقْسمها على خمسةٍ: تكون أربعة أخماسٍ لمن شهدها، ثمَّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفَّه فيجعله للكعبة، وهو سهم الله تعالى، ثمَّ يقسم ما بقي على خمسة أسهُم، فيكون سهم للرَّسول وسهمٌ لذوي القربى وسهمٌ لليتامى وسهمٌ للمساكين وسهمٌ لابن السَّبيل.
          وقال آخرون: ذِكْر الله استفتاحُ كلامٍ للتَّبرك وسهم للرَّسول، وعن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ سهم الله وسهم الرَّسول واحدٌ. وهكذا قال إبراهيم النَّخعي والحسن بن محمَّد بن الحنفية والحسن البصري / والشعبي وعطاء بن أبي رباح وقتادة وآخرون: إنَّ سهم الله ورسوله واحدٌ.
          ثمَّ اختلف القائلون بهذا القول، فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أقسامٍ: فأربعة منها بين من قاتل عليها، وخُمُسٌ واحدٌ يُقْسم على أربعة أقسام: فربع لله وللرَّسول فما كان لله وللرَّسول فهو لقرابة رسول الله صلعم ولم يأخذ النَّبي صلعم من الخمس شيئاً.
          وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن بريدة في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] قال: الذي لله فلنبيِّه، والذي للرَّسول فلِأَزواجه، وعن عطاء بن أبي رباح خُمُسُ اللهِ ورسوله واحدٌ يَصْنع فيه ما شاء؛ يعني: النَّبيَّ صلعم .
          وقال آخرون: إنَّ الخُمس يتصرَّف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرَّف في مال الفيء، وهذا قول مالك وأكثر السَّلف.
          وقد اختلف أيضاً في الذي كان يناله صلعم من الخُمس ماذا يَصنع به مِن بعده؟ فقالت طائفةٌ: يكون لمن يلي الأمر من بعده، روي ذلك عن أبي بكر وعليٍّ ☻ وقتادة وجماعة، وقال آخرون: يُصْرَفُ في مصالح المسلمين وابن السَّبيل، واختاره ابن جرير.
          وقيل: إنَّ الخُمس جميعه لذوي القربى. وقال الأعمش عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر ☻ يَجْعلان سَهْم النَّبيِّ صلعم في الكراع والسِّلاح، قلت لإبراهيم: ما كان علي ☺ يقول فيه؟ قال: كان أشدَّهم فيه، وهذا قول طائفةٍ كثيرةٍ من العلماء.
          وذكر ابن المناصف في كتاب الجهاد: عن مالكٍ أنَّ الفيءَ والخُمس سواءٌ يُجْعلان في بيت المال ويُعطي الإمامُ أقاربَ سيِّدنا رسول الله صلعم بقدر اجتهاده ولا يعطون من الزَّكاة؛ لقوله صلعم : ((لا تحلُّ الصَّدقة لآل محمَّد وهم بنو هاشم))
          وقال في الخمس والفيء: هو حلالٌ للأغنياء ويوقف منه لبيت المال بخلاف الزَّكاة، وقال عبد الملك: / الذي واسى الله ╡ فيه بين الأغنياء والفقراء مالُ الفيء، وما ضارع الفيء، ومن ذلك أخماس الغنائم وجزية أهل العنوة وأهل الصُّلح وخراج الأرض، وما صولح عليه أهل الشِّرك في الهدنة، وما أُخِذَ من تجَّار أَهْلِ الحرب إذا خرجوا لتجاراتهم إلى دار الإسلام، وما أُخِذَ من أهل ذمَّتنا إذا اتجروا من بلدٍ إلى بلدٍ، وخُمس الرِّكاز حيث ما وُجِدَ، يبدأ في تفريق ذلك بالفقراء والمساكين واليتامى وابن السَّبيل، ثمَّ يُساوي بين النَّاس فيما بقي شريفهم ووضيعهم، ومنه يَرزق والي المسلمين وقاضيهم ويُعْطي غازيهم ويَسدُّ ثغورهم ويَبنى مساجدهم وقناطيرهم ويَفكُّ أسيرهم، وما كان من كافَّة المصالح التي لا يوضع فيها الصَّدقات، فهذا أعمُّ في المصرف من الصَّدقات؛ لأنَّه يجري في الأغنياء والفقراء، وفيما يكون مصرف الصَّدقة وما لا يكون. هذا قول مالكٍ وأصحابه ومن ذهب مذهبهم أنَّ الخُمسَ والفيءَ مصرفهما واحدٌ، وذهب الشَّافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي وأبو ثور وداود وإسحاق والنَّسائي وعامة أصحاب الحديث والفقه إلى التفريق بين مصرف الفيء والخمس، فقالوا: الخمس موضوعٌ فيما عينه الله فيه من الأصناف المسمين في آية الخمس من سورة الأنفال لا يتعدَّى به إلى غيرهم، ولهم مع ذلك في توجيه قسمه عليهم بعد وفاة سيدنا رسول الله صلعم خلاف.
          وأمَّا الفيء فهو الذي يرجع النَّظر في مصرفه إلى الإمام بحسب المصلحة والاجتهاد، والله تعالى أعلم.
          (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي) احتجَّ البخاري بهذا التَّعليق على ما ذهب إليه من الرَّد على من جَعَل لرسول الله صلعم خُمُس الخُمس ملكاً، وأسند أبو داود هذا التَّعليق من حديث عبد الرَّزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة ☺ بلفظ: ((إنْ أنا إلَّا خازنٌ أضع حيث أُمِرْتُ)). وقال الحافظ العسقلاني: لم يقع هذا اللَّفظ في سياقٍ واحد، وإنَّما هو مأخوذٌ من حديثين: أمَّا حديث: ((إنَّما أنا قاسم)): فهو طرفٌ من حديث أبي هريرة ☺ / المذكور في الباب، وتقدَّم في العلم [خ¦71] من حديث معاوية بلفظ: ((وإنَّما أنا قاسمٌ والله يُعطي)): في أثناء حديث. وأمَّا حديث: ((إنَّما أنا خازنٌ والله يعطي)) فهو طرفٌ من حديث معاوية المذكور، ويأتي موصولاً في الاعتصام بهذا اللَّفظ [خ¦7312].