نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}

          ░35▒ (باب قَوْلِ اللّهِ ╡) أي: بيان سبب نزوله، وساق الأصيليُّ وكريمة الآيات الثلاث بتمامها، وفي رواية أبي ذرٍّ هكذا: <{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:106-108] > واخترنا رواية الأصيليِّ وكريمة، وسقنا الآيات الثلاث لزيادة فائدة فيه.
          قال الزجاج في «المعاني»: هذه الآيات الثلاث من أشكل ما في القرآن إعراباً وحكماً ومعنى.
          قال الله تعالى في أواخر سورة المائدة: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}) أي: فيما أمرتم شهادة بينكم، ويجوز أن / يكون مبتدأ خبره قوله: {اثْنَانِ} بتقدير مضاف؛ أي: شهادة اثنين، وعلى الأوَّل يكون {اثْنَانِ} فاعل {شَهَادَةُ}؛ أي: ليشهد اثنان، فاعل شهادة؛ أي: ليشهد اثنان فلفظه خبر، ومعناه أمر، وإضافة الشهادة إلى الظَّرف على الاتِّساع، وقرأ الحسن: (▬شهادةً↨) بالنصب والتنوين على معنى: ليقم شهادة اثنان، والمراد، والله أعلم، هو إشهاد اثنين.
          ({إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}) إذا شارفه وظهرت إمارته، وهو ظرفٌ للشَّهادة ({حِينَ الْوَصِيَّةِ}) بدل منه، وفي إبداله تنبيه على أنَّ الوصيَّة ممَّا ينبغي أن لا يتهاون فيه، ويحتمل أن يكون ظرف حضر ({اثْنَانِ}) فاعل {شَهَادَةُ} أو خبرها على ما تقدَّم ({ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}) أي: من أقاربكم، قاله الزمخشريُّ، أو من المسلمين، قاله ابن كثير، وقال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس ☻ في قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}؛ أي: من المسلمين، رواه ابن أبي حاتم. قال: وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيَّب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدِّي وقتادة ومقاتل بن حبان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك.
          وقال ابنُ جرير: وقال آخرون: عنى بذلك ذوي عدلٍ من حيِّ الموصِي، وذلك قولٌ روي عن عكرمة وعبيدة وعدَّة غيرهما، وهما صفتان لاثنان.
          ({أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}) قال الزمخشريُّ: من الأجانب. وقال ابن أبي حاتم بسنده: عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عبَّاسٍ ☻ في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: من غير المسلمين؛ يعني: أهل الكتاب، ثمَّ قال: وروي عن عبيدة وشريح، وسعيد بن المسيَّب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبيُّ وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدِّي ومقاتل بن حيَّان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك.
          وقال القاضي: ومن فسَّر الغير بأهل الذمَّة جعله منسوخاً، فإنَّ شهادته على المسلم لا تُسْمَعُ إجماعاً. انتهى. وفيه كلامٌ سيأتي إن شاء الله تعالى.
          ({إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}) أي: سافرتم فيها ({فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}) أي: قاربتم الأجل، وقال الزمخشريُّ: يعني: إن وقع الموت في السَّفر ولم يكن معكم أحدٌ من عشيرتكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية، وجعل الأقارب أولى؛ لأنَّهم / أعلم بأحوال الميِّت وما هو أصلح، وهم له أنصح. انتهى.
          وعلى القول الآخر: هذان شرطان لجواز استشهاد الذِّميِّين عند فقد المؤمنين إذا كان ذلك في سفرٍ وكان في وصية، كما صرَّح بذلك القاضي شريح.
          قال ابنُ جرير: حدَّثنا عمرو بن علي: حدَّثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدَّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهوديِّ والنصرانيِّ إلَّا في سفرٍ ولا تجوز في سفر إلَّا في وصية.
          وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل ☼ ، وهذا من انفراده، وخالفه الثلاثة، فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذِّمَّة على المسلمين. وذكر الطحاويُّ حديث أبي داود: أنَّ رجلاً من المسلمين توفِّي بدَقُّوقا ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيَّته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب نصرانيين فقدما الكوفة على أبي موسى، فقال أبو موسى: هذا أمرٌ لم يكن بعد الذي كان في عهد النَّبي صلعم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا، فأمضى شهادتهما.
          قال الطحاويُّ: فهذا يدلُّ على أنَّ الآية محكمةٌ عند أبي موسى وابن عباس ♥ ولا أعلم لهما مخالفاً من الصَّحابة في ذلك، وعلى ذلك أكثر التابعين.
          وذكر النحاس أنَّ القائلين بأن الآية الكريمة منسوخةٌ، وأنَّه لا تجوز شهادةُ كافرٍ بحالٍ، كما لا تجوز شهادة فاسقٍ: زيد بن أسلم والشَّافعي ومالك والنُّعمان، غير أنَّه أجاز شهادة الكفَّار بعضهم على بعض. وأمَّا الزهريُّ والحسن: فزعما أنَّ الآية كلَّها في المسلمين، وذهب غيرهما إلى أنَّ الشَّهادة هنا بمعنى الحضور.
          وقال آخرون: الشَّهادة بمعنى اليمين وتكلَّموا في معنى استحلاف الشَّاهدين هنا، فمنهم من قال: لأنهما ادَّعيا وصيَّة من الميت، وهذا قول يحيى بن يعمر.
          قال النَّحَّاس: وهذا لا يعرف في حكم الإسلام أن يدَّعي رجلٌ وصيَّةً فيحلف ويأخذها، ومنهم من قال: يحلفان إذا شهدا أنَّ الميت أوصى بما لا يجوز أو بماله كله، قال: وهذا أيضاً لا يعرف في الأحكام، ومنهم من قال: يحلفان إذا اتُّهما، ثمَّ تُنْقَلُ اليمين عنهما إذا اطُّلع على الخيانة إلى الأولياء. /
          وزعم ابن زيد أنَّ ذلك كان في أوَّل الإسلام، كان الناس يتوارثون بالوصيَّة، ثمَّ نسخت الوصية وفرضت الفرائض.
          وقال الخطابيُّ: ذهبت عائشة ♦ إلى أنَّ هذه الآية ثابتةٌ غير منسوخة، ورُوي ذلك عن الحسن والنخعيِّ، وهو قول الأوزاعي قال: وكان تميم وعدي وصيَّين لا شاهدين، والشُّهود لا يَحلفون، وإنَّما عَبَّر بالشَّهادة عن الأمانة التي تحمَّلاها في قبول الوصية وفي العالم.
          واختلفوا في هذين الاثنين فقال قومٌ: وهما الشَّاهدان اللذان يشهدان على وصيَّة الموصي.
          وقال آخرون: هما الوصيَّان؛ لأنَّ الآية نزلت فيهما، ولأنَّه قال: تحبسونهما من بعد الصَّلاة فيقسمان، ولا يلزم الشَّاهد يمين، وجعلُ الوصيَّ اثنين تأكيد.
          فعلى هذا تكون الشَّهادة بمعنى الحضور كقولك: شهدتُ وصية فلان بمعنى: حضرتُ، قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] يريد: الحضور، انتهى.
          ({تَحْبِسُونَهُمَا}) تقفونهما وتصبرونهما للحلف، صفة لآخران، والشَّرط أعني قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المائدة:106] بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} اعتراضٌ بين الصِّفة والموصوف فائدته الدَّلالة على أنَّه ينبغي أن يشهد اثنان منكم، فإن تعذَّر كما في السَّفر فمن غيركم، أو استئناف كأنَّه قيل: كيف نعمل إن ارتبنا بالشَّاهدين؟ فقال: تحبسونهما.
          ({مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ}) اختلف فيها، فقال النَّخعي والشعبيُّ وابن جبير وقتادة: من بعد صلاة العصر؛ لأنَّه وقت اجتماع النَّاس وتصادم ملائكة اللَّيل وملائكة النهار، ولأنَّ جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنَّبون فيه الحلف الكاذب. وقال الحسن: أراد من بعد صلاة الظهر. وقال النَّحاس والسُّدي: يروى عن ابن عباس ☻ : ((من بعد صلاة أهل دينهما؛ لأنَّهما لا يباليان بصلاة العصر))، قال: ((فدعا النَّبي صلعم تميماً وعدياً بعد العصر، فاستحلفهما عند المنبر)).
          وقال الزهريُّ: يعني: صلاة المسلمين يريد: أيَّ صلاةٍ كانت، والمقصود أن يقام هذان الشَّاهدان بعد صلاة اجتمع فيها / بحضرتهم.
          ({فَيُقْسِمَانِ}) أي: يحلفان ({بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ}) أي: إن ارتاب الوارث منكم وظهر له ريبةٌ منهما أنهما خانا وغلَّا ({لاَ نَشْتَرِي بِهِ}) أي: بالقسم أو بالله ({ثَمَناً}) هذا مقسمٌ عليه، و{إِنِ ارْتَبْتُمْ} اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب، والمعنى: لا يستبدل بالقسم أو بالله عرضاً قليلاً من الدُّنيا الفانية الزائلة؛ أي: لا يحلف بالله كاذباً لطمع.
          ({وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}) أي: ولو كان المقسم له والمشهود له قريباً منا، وجوابه أيضاً محذوف؛ أي: لا نشتري ولا نحابيه ({وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}) أي: الشَّهادة التي أمرنا بإقامتها، فإضافة الشَّهادة إلى الله للملابسة. وعن الشعبيِّ: أنَّه وقف على {شَهَادَةَ} ثمَّ ابتدأ: {اللهِ} بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي عنه بغير المد أيضاً كقولهم: والله لأفعلنَّ.
          ({إِنَّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة:106]) أي: إن كتمنا أو إن فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشَّهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلِّية، وقرئ في الشواذ: (▬لَمِنْ لاثمين↨) بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها ({فَإِنْ عُثِرَ}) أي: فإن اطَّلع وظهر ({عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً}) أي: فعلا ما أوجب إثماً كتحريفٍ وخيانةٍ أو غل شيءٍ من المال الموصى به إليهما، فهو من باب إطلاق المسبب وإرادة السَّبب.
          قال أبو عبيدة في «المجاز»: فإن عثر على أنَّهما استحقَّا إثماً؛ أي: فإن ظهر عليه.
          وروى الطبرانيُّ من طريق سعيد، عن قتادة: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} إن اطلع منهما على خيانة.
          وأمَّا تفسير: {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] فقال الفراء: قوله {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}؛ أي: أظهرنا وأطلعنا، قال: وكذلك قوله: {فَإِنْ عُثِرَ}؛ أي: اطلع.
          ({فَآخَرَانِ}) أي: فشاهدان آخران ({يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا}) أي: مقام الشَّاهدين الأوَّلين ({مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ}) على البناء للمفعول؛ أي: من الذين استحقَّ عليهم الإثم، ومعناه: من الذين جُنِيَ عليهم وهم أهل الميِّت وورثته، وقرأ حفص: {استَحَقَّ} على البناء للفاعل، وهو الأوليان، والمعنى: من الورثة / الَّذين استحقَّ عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجرِّدوهما للقيام بالشَّهادة، ويظهروا بهما كذب الكذابين، وهذه القراءة تعزى إلى عليٍّ وابن عباس ♥ .
          ({الأَوْلَيَانِ}) أي: الأحقَّان بالشَّهادة لقرابتهما ومعرفتهما به، وهو خبر محذوفٌ؛ أي: هما الأوليان أو مبتدأ خبره {آخَرَانِ} مقدماً أو خبر {آخَرَانِ} أو بدل من {آخَرَانِ}، أو من الضَّمير في يقومان.
          وأجاز الأخفش أن تكون صفة لـ{آخَرَانِ}؛ لأنه لمَّا وصف اختصَّ، فجاز أن يوصف بما يوصف به المعارف، ويجوز أن يرتفعَ بـ{اسْتُحِقَّ} على حذف المضاف؛ أي: من الذين استحقَّ عليهم انتداب الأوليين منهم للشَّهادة لاطِّلاعهما على حقيقة الحال، وهذا وجهٌ حسنٌ ولا ضمير في {اسْتُحِقَّ} على هذا الوجه.
          وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم: ({الأَوَّلِينَ}) بالجمع مجروراً على أنَّه صفة للذين أو بدل منه، أو بدل من الضَّمير في عليهم، أو منصوباً بإضمار أعني، ومعنى الأولين: التقدُّم على الأجانب في الشَّهادة لكونهم أحقَّ بها، أو تقدَّم ذكرهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة:106]، وقرئ في الشواذ: (▬الأَوْلَينِ↨) على التَّثنية، وانتصابه على المدح. وقرأ الحسن: (▬الأوَّلان↨) وإعرابه إعراب {الأَوَّلِيَّانِ}.
          قال أبو إسحاق الزَّجاج: هذا الموضع من أصعبِ ما في القرآن إعراباً، قال الشَّهاب السَّمين: ولقد صدق والله فيهما قال: ثم بسط القول في ذلك وختمه بأن قال: وقد جمع الزمخشريُّ ما قلتُه بأوجز، والله تعالى أعلم.
          ({فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}) أصدق منها وأولى بأن تُقْبَل ({وَمَا اعْتَدَيْنَا}) أي: وما تجاوزنا فيها الحقَّ ({إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:107]) الواضعين الباطل موضع الحقِّ أو الظَّالمين أنفسهم إن اعتدينا.
          قال القاضي: ومعنى الآيتين أنَّ المحتضر إذا أراد الوصيَّة ينبغي أن يشهدَ عدلين من ذوي نسبهِ أو دينه على وصيِّته أو يوصِي إليهما احتياطاً، فإن لم يجدهما بأن كان في سفرٍ فآخران من غيرهم، ثم إن وقع / نزاع وارتياب أقسما على صدقِ ما يقولان بالتَّغليظ في الوقت، فإن اطُّلِعَ على أنَّهما كَذَبَا بأَمَارة ومظنَّة، حلَّف آخران من أولياء الميِّت، والحكم منسوخٌ إن كان الاثنان شاهدين، فإنَّه لا يُحَلَّفُ الشَّاهدُ ولا يُعارَضُ يمينهُ بيمين الوارث، وثابتٌ إن كانا وصيَّين، وَرَدُّ اليمين إلى الورثة، إمَّا لظهور خيانة الوصيين فإنَّ تصديق الوصيِّ باليمين لأمانته، أو لتغيير الدَّعوى.
          إذ روي: أنَّ تميماً الدَّاري وعديَّ بن بَدَّاء خرجا إلى الشَّام للتجارة وكانا حينئذٍ نصرانيين ومعهما بُذَيل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً، فلما قدموا الشَّام مرض بُذَيل فدوَّن ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه، ولم يخبرهما به وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات ففتَّشاه وأخذا منه إناء من فضَّة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشاً بالذَّهب فغيَّباه، فأصاب أهله الصَّحيفة فطالبوهما بالإناء، فجحدا، فترافعوا إلى رسول الله صلعم فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [المائدة:106] الآية فحلفهما رسول الله صلعم بعد صلاة العصر عند المنبر، وخلَّى سبيلهما، ثمَّ وجد الإناء في أيديهما، فأتاهما بنو سهم في ذلك، فقالا: قد اشتريناه منه، ولكن لم يكن لنا عليه بيِّنة، فكرهنا أن نقرَّ به، فرفعوهما إلى رسول الله صلعم فنزلت: {فَإِنْ عُثِرَ} الآية، فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رداعة السَّهميَّان وحَلَفا.
          ولعلَّ تخصيص العدد؛ يعني: عدد الوصيِّ؛ أي: جَعْلَ الوصي اثنين لخصوص الواقعة، وإلَّا فيكفي وصيٌّ واحد.
          هذا، وقال العينيُّ: ويحتجُّ به من يرى ردَّ اليمين على المدعي، وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك فوجهه عندهم أنَّ الورثة قد ادَّعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا، فلمَّا ظهر كذبهما ادَّعيا الشراء فيما كتما، فأنكر الورثة، وكانت اليمين على الورثة لإنكارهما الشِّراء، والله تعالى أعلم.
          ({ذَلِكَ}) أي: الحكم الذي تقدم أو تحليف الشَّاهد ({أَدْنَى}) أي: أقرب ({أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}) أي: على نحو ما حملوها من غير تحريفٍ وخيانة فيها ({أَوْ يَخَافُوا}) أي: أقرب من أن يخافوا / ({أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}) أي: أن يُرَدَّ اليمين على المدَّعين بعد أيمانهم فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم، وإنَّما جمع الضمير؛ لأنَّه حكم يعمُّ الشهود كلهم ({وَاتَّقُوا اللَّهَ}) أن تحلفوا كاذبين وتخونوا أمانة ({وَاسْمَعُوا}) ما تُوْصَون وتُوْعَظون به، سماعَ إجابةٍ ({وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108]) أي: إن لم تتَّقوا ولم تسمعوا كنتم قوماً فاسقين، ولا يهدِي الله القوم الفاسقين إلى حجَّةٍ أو إلى طريق الجنَّة، فهو وعيدٌ لهم بحرمان الهداية.