نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الوصية بالثلث

          ░3▒ (باب) جواز (الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ) أو مشروعيَّتها، قد استقرَّ الإجماع على منع الوصيَّة بأكثر من الثُّلث لكن اختلف فيمن كان له وارثٌ، وسيأتي تقريره في باب لا وصيَّة لوارثٍ [خ¦1747]، وفيمن لم يكن وارث خاص فمنعه بعض العلماء، وجوَّزه الحنفيَّة، وإسحاق، وشريك، وأحمد في روايةٍ، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ ☻ ، واحتجُّوا بأنَّ الوصيَّة مطلقةٌ في الآية فقيَّدتها السُّنَّة بمن له وارثٌ فبقي من لا وارث له على الإطلاق.
          واختلفوا أيضاً هل يعتبر ثلث المال حين الوصيَّة، أو حال الموت على قولين، وهما وجهان للشافعيَّة، أصحهما الثَّاني. وقال بالأوَّل مالكٌ وأكثر العراقيين، وهو قول النَّخعي وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثَّاني أبو حنيفة وأحمد والباقون، وهو قول علي بن أبي طالبٍ، وجماعة من التَّابعين، وتمسَّك الأوَّلون بأن الوصيَّة عقدٌ والعقود تعتبر بأوَّلها، وبأنَّه لو نذر أن يتصدَّق بثلث ماله اعتبر ذلك حالة النَّذر اتِّفاقاً.
          وأُجيب: بأن الوصيَّة ليست عقداً من كلِّ جهةٍ، ولذلك لا يعتبر فيها الفور به ولا القبول، وبالفرق بين النَّذر والوصيَّة بأنها يصحُّ الرُّجوع فيها والنَّذر يلزم، والظاهر أنَّ الوصيَّة تمليكٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت، فينبغي أن يعتبر تنفيذه ممَّا وجد حال الموت.
          وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مالٌ بعد الوصيَّة، أو نقص بعضه حال الموت.
          واختلفوا أيضاً: هل يحسب الثُّلث من جميع المال أو يتقيَّد بما علمه الموصي دون ما خفي عليه أو تجدَّد له ولم يعلم به؟ وبالأوَّل قال الجمهور، وبالثَّاني قال مالكٌ، وحجَّة الجمهور أنَّه لا يشترط أن يستحضر مقدار المال حال الوصيَّة اتِّفاقاً ولو كان عالماً بجنسه، فلو كان العلم به شرطاً لما جاز ذلك.
          فائدةٌ: أوَّل من أوصى بالثُّلث في الإسلام البراء بن معرورٍ، بمهملاتٍ، أوصى به للنَّبيِّ صلعم ، وكان قد مات قبل أن يدخل النبيُّ صلعم المدينة بشهرٍ، فقبله النبيُّ صلعم وردَّه على ورثته، أخرجه الحاكم وابن المنذر من طريق يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن جدِّه.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ / (لاَ يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ الثُّلُثُ) يعني أنَّ الذِّمِّي إذا أوصى بأكثر من ثلث ماله لا يجوز، وأمَّا المسلم إذا أوصى بأكثر من ثلث ماله فإن لم يكن له ورثةٌ جاز، وإن كانت له ورثةٌ فإن أجازوا جازت الوصيَّة، وإن ردُّوا بطلت الوصيَّة. وقال مالك والشَّافعيُّ وأحمد: لا تجوز إلَّا في الثُّلث، ويوضع الثُّلثان في بيت المال.
          وقال ابن بطَّالٍ: أراد البخاريُّ بهذا الرَّدَّ على من قال كالحنفيَّة بجواز الوصيَّة بالزِّيادة على الثُّلث لمن لا وارث له، ولذلك احتجَّ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] والَّذي حكم به النَّبيُّ صلعم من الثُّلث هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حدَّه فقد أتى ما نَهَى عنه.
          وقال ابن المنيِّر: لم يرد البخاريُّ هذا، وإنَّما أراد الاستشهاد بالآية على أنَّ الذّمِّي إذا تحاكم إلينا ورثته لا ننفذ من وصيَّته إلا الثُّلث، لأنَّا لا نحكم فيهم إلَّا بحكم الإسلام، لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}.
          وقال العينيُّ: العجب من البخاريِّ أنَّه ذكر عن الحسن أنَّه لا يرى للذّمِّي الوصيَّة بأكثر من الثُّلث فليت شعري ما وجه ذكر هذا، والحال أنَّ حكم المسلم كذلك عنده وعند غير الحنفيَّة.
          وأعجب منه كلام ابن بطَّالٍ الذي تمحل فيه بالمحال، واستحقَّ الرَّدَّ على كلِّ حالٍ، وأبعد من هذا وأكثر استحقاقاً بالرَّدِّ قول صاحب «التوضيح» حيث قال: وعلى قول أبي حنيفة ردَّ البخاريُّ في هذا الباب، ولذلك صدر بقول الحسن ثمَّ بالآية فسبحان الله كيف يردُّ على أبي حنيفة بقول الحسن وما وجه ذلك لا يُدْرَى.
          (وَقَالَ اللَّهُ ╡: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}) هو عطفٌ على الكتاب؛ أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم أو على الحقِّ؛ أي: أنزلناه بالحقِّ وبأن احكم، ويجوز أن يكون جملةً بتقدير وأمرنا أن احكم، والآية في سورة المائدة، وآخر الآية: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] أي: أن يضلُّوك ويصرفوك منه، وأن بصلته بدلٌ من هم بدل الاشتمال؛ أي: احذر فتنتهم أو مفعول له؛ أي: احذرهم مخافة أن يفتنوك.
          روي أنَّ / أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلَّنا نفتنه عن دينه، فقال: يا محمد، قد عرفت أنَّا أحبار اليهود، وأنَّا إن اتَّبعناك اتبعك اليهود كلهم، وإنَّ بيننا وبين قومنا خصومةً فنتحاكم فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدِّقك فأبى ذلك رسول الله صلعم ، فنزلت: {فَإِن تَوَلَّوا} عن الحكم المنزَّل وأرادوا غيره {فَاعلَم أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعضِ ذُنُوبِهِم} يعني: ذنب التَّولِّي عن حكم الله فعبَّر عنه بذلك تنبيهاً على أنَّ لهم ذنوباً كثيرةً، وهذا مع عظمه واحدٌ منها معدودٌ من جملتها، وفيه دَلالةٌ على التَّعظيم، كما في التَّنكير {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] لمتمرِّدون في الكفر المعتدون فيه.