نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}

          ░8▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]) وكأنَّ المصنِّف أراد بهذه التَّرجمة الاحتجاج لما اختاره من جواز إقرار المريض بالدَّين مطلقاً سواء كان المقر له وارثاً أو أجنبيًّا.
          ووجه الدَّلالة أنَّه سبحانه وتعالى سوَّى بين الوصيَّة والدَّين في تقديمهما على الميراث ولم يفصل، فخرجت الوصيَّة للوارث بالدَّليل الذي تقدَّم، وبقي الإقرار بالدَّين على حاله. وهذا مذهب الشَّافعي ومالك وأحمد، وأمَّا مذهب أبي حنيفة ☼ فهو أنَّه خرج الإقرار بالدَّين للوارث أيضاً، بقوله: ولا إقرار بدينٍ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
          ثمَّ قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قطعةٌ من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:11] وهو يتعلَّق بما تقدَّم من المواريث كلها إلا بما يليه وحده، كأنَّه قيل: قسمة هذه / الأشياء تقعُ من بعد وصيَّة، والوصيَّة هنا المال الموصى به.
          وفائدة قوله: {يُوصِي بِهَا} أن يعلم أنَّ للميِّت أن يوصي، قاله السُّهيلي قال: وأفاد تنكير وصيَّة أنَّها مندوبةٌ إذ لو كانت واجبةٌ لقيل: من بعد الوصيَّة. انتهى. فليُتَأمَّل.
          (وَيُذْكَرُ: أَنَّ شُرَيْحاً وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُساً وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ) بضم الهمزة وفتح الذال المعجمة وسكون المثناة التحتية وبالنون، واسمه: عبد الرَّحمن، قاضي البصرة، من التَّابعين الثِّقات، كان مالك يروي عنه الفقه، مات سنة خمس وتسعين من الهجرة، ووهم من ذكره من الصَّحابة.
          (أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ) ذَكَرَ عنهم ما ذَكَرَه بصيغة التَّمريض، وكأنَّه لم يجزم بصحَّة النَّقل عنهم لضعف الإسناد إلى بعضهم، فأمَّا ابن شريح فوصله ابنُ أبي شيبة عنه، بلفظ: إذا أقرَّ في مرضٍ لوارث بدينٍ لم يجز إلا ببيِّنة، وإذا أقرَّ لغير وارث جاز. وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيفٌ، وأخرجه من طريق أخرى أضعف من هذه.
          وأمَّا عمر بن عبد العزيز فقال الحافظ العسقلانيُّ: لم أقف على من وصله عنه، وأمَّا أثر طاوس فوصله ابن أبي شيبة أيضاً عنه، بلفظ: إذا أقرَّ لوارث جاز، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف.
          وأمَّا أثر عطاء فوصله ابنُ أبي شيبة عنه بمثل أثر طاوس، ورجال إسناده ثقات.
          وأمَّا أثر ابن أُذَيْنة فوصله ابن أبي شيبة أيضاً من طريق قتادة عنه في الرَّجل يقرُّ لوارث بدين، قال: يجوز، ورجال إسناده ثقات، والله أعلم.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) هو: البصريُّ (أَحَقُّ مَا يَصَدَّقَ) على البناء للمفعول من التَّصديق، ويروى: <تصدَّق> على صيغة الماضي من التصدُّق، والأوَّل هو المناسب للمقام.
          (بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ) قال الكرماني: آخر بالنصب وبالرفع، هذا، أمَّا بالنَّصب فبتقدير في آخر يوم، وأمَّا الرَّفع فعلى أنَّه خبر لقوله: أحقُّ؛ أي: أحقُّ زمان يُصَدَّق فيه الرَّجل في أحواله آخر عمره، والمقصود أنَّ إقرار المريض في مرض موته حقيق بأن يصدَّق به ويحكم بإنفاذه، وهذا الأثر أثرٌ صحيح، رواه الدَّارمي في «مسنده» / من طريق قتادة، قال: قال ابن سيرين عن شريح: لا يجوز إقرارٌ لوارث، قال: فقال الحسن أحقُّ ما جاز عليه عند موته أوَّل يوم من أيَّام الآخرة، وآخر يوم من أيَّام الدُّنيا.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو: النَّخعي (وَالْحَكَمُ) بفتحتين، هو: ابن عتيبة (إِذَا أَبْرَأَ) أي: المريض مرض الموت (الْوَارِثَ) بالنصب؛ أي: وارثه (مِنَ الدَّيْنِ) الذي عليه (بَرِئَ) أي: الوارث، وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق الثَّوري عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن إبراهيم في المريض إذا أبرأ الوارث من الدَّين برئ. وعن مطرف عن الحكم قال مثله.
          (وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ) بن رافع الأوسي الأنصاري الحارثيُّ، أبو عبد الله شهد أحداً والخندق، وخَدِيج بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وآخره جيم.
          (أَنْ لاَ تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ) بفتح الفاء وتخفيف الزاي وبالراء (عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بابهَا) وفي رواية المستملي والسرخسي: <عن مال أغلق عليه بابها> ويروى: <أغلق عليها> ويروى: <أغلقت عليه بابها> وهاتان الرِّوايتان تحتاجان إلى تكلُّف في المبنيِّ، وقوله: أغلق على البناء للمفعول، والظَّاهر أنَّ المراد منه أنَّ المرأة بعد موت زوجها لا يتعرَّض لها فإنَّ جميع ما في بيته لها وإن لم يشهد لها زوجها بذلك، وإنَّما احتيج إلى الإشهاد والإقرار إذا علم أنَّه تزوَّجها فقيرة، وأنَّ ما في بيتها من متاع الرِّجال، وبه قال مالك. وقال الحافظ العسقلانيُّ: ولم أقف على هذا الأثر موصولاً بعد.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ، جَازَ) وهذا على أصله أنَّ إقرار المريض نافذ مطلقاً، فهذا على إطلاقه يتناول أن يكون من جميع ماله ويخالفه غيره فلا يعتق إلَّا من الثُّلث، قال الحافظ العسقلانيُّ أيضاً: لم أقف على من وصله.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) هو: عامر بن شراحيل (إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي قَضَانِي) أي: أداني حقِّي (وَقَبَضْتُ مِنْهُ، جَازَ) أي: إقرارها. /
          قال ابن التين: وجهه أنَّها لا تتَّهم بالميل إلى زوجها في تلك الحال، ولا سيما إذا كان لها ولد من غيره.
          (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) قال صاحب «التوضيح»: المراد ببعض النَّاس أبو حنيفة، وقال الكرمانيُّ: أي كالحنفيَّة، قال العينيُّ: وهذا كلَّه تشنيع على أبي حنيفة أو على الحنفيَّة مطلقاً، وفيه سوء الأدب على ما لا يخفى.
          (لاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ) أي: إقرار المريض لبعض الورثة (لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ) أي: بهذا الإقرار أو بالمريض، وهو الظَّاهر، وفي رواية المستملي: <بسوء الظَّن> بالموحدة بدل اللام (لِلْوَرَثَةِ) يعني أنَّه مظنَّة أن يريد الإساءة بالبعض الآخر منهم، كذا قاله العينيُّ قال: وهذا لا يطلق عليه سوء الظَّن.
          أقول: والذي يظهر لي أنَّ المراد أنَّه لا يجوز إقرار المريض لبعض الورثة، لئلا يسيء النَّاس به لأجل الورثة بأنَّه أراد إبطال حقِّ البعض الآخر منهم فيكون ضمير به للمريض لا للإقرار.
          والحاصل أنَّ سوء الظَّن معتبر من النَّاس بالمريض بأنَّه أبطل حقَّ بعض الورثة لا أنَّه معتبر منه بأنَّه أراد الإساءة بالبعض الآخر منهم، حتَّى يقال: إنَّ هذا لا يطلق عليه سوء الظَّن.
          وقال العيني: ولم يعلِّل الحنفيَّة عدم جواز إقرار المريض لبعض الورثة بهذه العبارة، بل قالوا: لا يجوز ذلك؛ لأنَّه ضرر لبقيَّة الورثة، مع ورود قوله صلعم : ((لا وصيَّة لوارث ولا إقرار له بدين)). ومذهب مالك كمذهب أبي حنيفة إذا اتُّهم، وهو اختيار الرُّوياني من الشَّافعية عن شريح، والحسن بن صالح: لا يجوز إقرار المريض لوارث إلَّا لزوجته بصداقها، وعن القاسم، وسالم، والثَّوري: لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقاً.
          وزعم ابن المنذر أنَّ الشَّافعي رجع إلى قول هؤلاء، وبه قال أحمد، قال: لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقاً؛ لأنَّه منع الوصيَّة له فلا يؤمن أن يريد الوصيَّة له فيجعلها إقراراً.
          قال العينيُّ: والعجب من البخاري أنَّه خصَّ الحنفيَّة بالتَّشنيع عليهم، وهم ليسوا منفردين فيما ذهبوا إليه، ولكن ليس هذا الأمر إلَّا بسبب أمر سبق فيما بينهم، والله أعلم.
          (ثُمَّ اسْتَحْسَنَ) أي: بعض النَّاس (فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ) والفرق بين البضاعة والمضاربة أنَّ الرُّبع مشترك بين / العامل والمالك في المضاربة، وكل الرِّبح للمالك في البضاعة، ثمَّ الفرق بين الإقرار بالدَّين وبين الإقرار بالوديعة والبضاعة والمضاربة أنَّ مبنى الإقرار بالدَّين على اللُّزوم ومبنى الإقرار بهذه الأشياء المذكورة على الأمانة، وبين اللُّزوم والأمانة فرق عظيم.
          هذا، وقال ابن التِّين: إن أراد هذا القائل ما إذا أقرَّ بالمضاربة مثلاً للوارث لزمه التَّناقض. وقد فرَّق بعض الحنفيَّة بأنَّ ربح المال في المضاربة مشترك بين العامل والمالك، فلم يكن كالدَّين المحض.
          وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ إقرار المريض لغير الوارث جائزٌ، لكن إن كان عليه دين في الصِّحة، فقد قالت طائفة منهم النَّخعي وأهل الكوفة: يبدأ بدين الصِّحة ثمَّ بأصحاب الإقرار في المرض.
          واختلفوا في إقرار المريض للوارث، فأجازه مطلقاً الأوزاعيُّ وإسحاق وأبو ثور، وهو المرجَّح عند الشَّافعية، وبه قال مالك إلا أنَّه استثنى ما إذا أقرَّ لبنته، ومعها من يشركها من غير الولد كابن العمِّ مثلاً، قال: لأنَّه يتَّهم في أن يزيد بنته وينقص ابن عمَّه من غير عكسٍ، واستثنى ما إذا أقرَّ لزوجته التي يعترف بمحبَّتها والميل إليها، وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد ولا سيما إن كان له منها في تلك الحالة ولد.
          وحاصل المنقول عن المالكيَّة أنَّ مدار الأمر على التُّهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلَّا فلا؛ وهو اختيار الرُّوياني من الشَّافعيَّة كما سبق آنفاً. ومنع الحنفيَّة إقرار المريض بالدَّين للوارث مطلقاً، بدليل قوله صلعم : ((لا وصيَّة لوارث ولا إقرار له بالدَّين))، قالوا: إلَّا أن يصدِّقه بقيَّة الورثة؛ لأنَّ المنع لحقِّهم فإذا صدَّقوه فقد أبطلوه فيصحُّ إقراره.
          واحتجَّ من أجازه مطلقاً بما تقدَّم عن الحسن، وقالوا: إنَّ التَّهمة في حقِّ المحتضر بعيدة، وفرق بين الوصيَّة والدَّين فإنَّهم اتَّفقوا على أنَّه لو أوصى في صحَّته لوارثه بوصيَّته وأقرَّ له بدين، ثمَّ رجع أنَّ رجوعه عن الإقرار لا يصحُّ بخلاف الوصيَّة فيصحُّ رجوعه عنها، / واتَّفقوا على أنَّ المريض إذا أقرَّ بوارث صحَّ إقراره مع أنَّه يتضمَّن الإقرار له بالمال، وقالوا أيضاً: إنَّ مدار الأحكام على الظَّاهر فلا يترك إقراره للظَّن المحتمل، فإنَّ أمره فيه إلى الله تعالى.
          (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلعم : إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) هذا طرفٌ من حديثٍ وصَلَه البخاريُّ في الأدب من وجهين [خ¦6064] [خ¦6066] عن أبي هريرة ☺، وقصد بذكره هنا الرَّد على الحنفيَّة في قولهم: لسوء الظَّن به للورثة.
          وحاصله: الرَّد على من أساء الظَّن بالمريض فمنع تصديقه، ولم يجوز إقراره للوارث؛ يعني: أنَّ الظَّن محذر عنه لقوله صلعم : ((إيَّاكم والظَّن)) فسوء الظَّنِّ بالمريض لا يليق بالمؤمن، فبناء الحكم عليه ليس بذلك.
          قال العينيُّ: وإنَّما يصحُّ هذا الردُّ على الحنفيَّة إذا ثبت أنَّهم علَّلوا ذلك بسوء الظَّنِّ به للورثة وهو ممنوع، وقد تقدَّم.
          وقوله: ((أكذب الحديث)) فيه تسامح، والمعنى: إنَّ الظنَّ أكذب في الحديث من غيره، وذلك لأنَّ الصِّدق والكذب يوصف بهما القول لا الظَّن، ثمَّ إنَّهما لا يقبلان الزِّيادة والنُّقصان حتَّى يُبْنَى منهما أفعل التَّفضيل.
          وتحقيقه أنَّه جعل الظَّن كمتكلِّم، فوصف بهما كما يوصف المتكلِّم، فيقال: متكلِّم صادقٌ وكاذبٌ، والمتكلِّم يقبل الزِّيادة والنُّقصان في الصِّدق والكذب، فيقال: زيدٌ أصدق من عمرو فيكون معناه كما تقدَّم أنَّ الظَّنَّ أكذب في الحديث من غيره.
          تنبيه: والحاصل أنَّ البخاري ردَّ على الحنفيَّة بوجهين:
          أمَّا الأوَّل: فبأنَّهم ناقضوا أنفسهم من حيث جوَّزوا إقراره للوارث بالوديعة ونحوها بمجرَّد الاستحسان من دون دليل يدلُّ على امتناع ذلك وجواز هذا.
          وأمَّا الثَّاني: فبأنَّه لا يجوز منع الإقرار بسبب الظَّن به الإساءة؛ لأنَّ الظَّن محذر عنه بقوله صلعم : ((إيَّاكم والظَّن)) وكلٌّ من الوجهين مندفعٌ كما عرفت، / والله أعلم.
          (وَلاَ يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : آيَةُ الْمُنَافِقِ: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) هذا طرف من حديث تقدَّم في كتاب الإيمان [خ¦33]، وسيأتي من هذا الباب إن شاء الله تعالى [خ¦2749]. وذلك احتجاج آخر لما ادَّعاه ووجهه أنَّه دالٌّ على ذمِّ الخيانة ووجوب تركها، فلو ترك ذكر ما عليه وكتمه لكان خائناً للمستحقِّ ولزم من وجوب ترك الخيانة وجوب الإقرار بما عليه، وإذا أقرَّ لا بدَّ من اعتبار إقراره، وإلَّا لم يكن لإيجاب الإقرار فائدة.
          وقال العينيُّ: سلَّمنا وجوب ترك الخيانة، ولكن لا نسلِّم وجوب الإقرار بما عليه إلَّا في موضع ليس فيه تهمة ولا أذى للغير، كما في الإقرار للأجنبيِّ، وأمَّا الإقرار لوارثه ففيه تهمة ظاهرة وأذى ظاهر لبقيَّة الورثة كما لا يخفى. فإن قيل: هذا المقر في حالة يرد فيها على الله، فهي الحالة التي يجتنب فيها المعصية والظُّلم.
          فالجواب: أنَّ هذا أمر مبطَّن ولا نحكم إلا بالظَّاهر، والله يتولَّى السَّرائر.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثاً وَلاَ غَيْرَهُ) أي: لم يفرِّق بين الوارث وغيره في الأمر بأداء الأمانة، فيصحُّ الإقرار سواء كان لوارث أو غيره، فهذا احتجاج آخر لما ذهب إليه.
          وقال العينيُّ: وهو بعيد جداً؛ لأنَّه يقال: من أين علم أنَّ ذمَّة المقرِّ للوارث كانت مشغولة حتَّى إذا لم يقرَّ كان خائناً.
          فإن قيل: إقراره عند توجُّهه إلى الآخرة يدلُّ على ذلك.
          فالجواب أنَّه مع هذا يحتمل تخصيصه بذلك بعض الورثة قصداً لنفعه، وفي ذلك ضرر لغيره، والضَّرر مدفوع شرعاً.
          ولئن سلَّمنا اشتغال ذمَّته في نفس الأمر بما أقرَّ به فهذا لا يكون إلَّا ديناً مضموناً فلا تطلق عليه الأمانة فلا يصحُّ الاستدلال بالآية الكريمة على ذلك على أنَّ كون الدَّين في ذمَّته مظنون بحسب الظَّاهر، والضَّرر لباقي الورثة عند ذلك محقَّق، فكيف يترك العمل بالمحقَّق ويعمل بالمظنون. /
          (فِيهِ) أي: في قوله: ((آية المنافق إذا اؤتمن خان)) (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) أي: ابن العاص ☻ ؛ أي: روايته (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) وقد ذكره موصولاً في كتاب الإيمان، في باب علامة المنافق، ولفظه [خ¦34]: ((أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً))، وفيه: ((وإذا اؤتمن خان)).