نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الوصايا

          ░1▒ (باب الْوَصَايَا، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : وَصِيَّةُ الرَّجُلِ) مبتدأٌ، وقوله: (مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) خبره، والمعنى وصيَّة الرَّجل ينبغي أن تكون مكتوبةً عنده، وإنَّما ذكر بهذه الصُّورة قصداً للمبالغة وحثًّا على كتابة الوصيَّة. وذِكْرُ الرَّجل خَرَجَ مَخْرَجَ الغَالب، وإلَّا فلا فرق في الوصيَّة بين الرَّجل والمرأة، ولا يشترط فيها إسلامٌ، ولا رشدٌ، ولا ثُيُوبة، ولا إذن زوجٍ، وإنَّما يشترط في صحَّتها العقل والحريَّة.
          وأمَّا وصيَّة الصَّبي المميِّز ففيها خلاف؛ منعها الحنفيَّة والشَّافعي في الأظهر، وصحَّحها مالك وأحمد والشَّافعي في قولٍ رجَّحه ابن أبي عَصْرُون وغيره، ومال إليه السبكيُّ، وأيَّده بأنَّ الوارث لا حقَّ له في الثُّلث فلا وجه لمنع وصيَّة المميِّز، قال: والمعتبر فيه أن يعقلَ ما يوصي به.
          وروى «الموطَّأ» فيه أثراً عن عمر ☺ / أنَّه أجاز وصيَّة غلامٍ لم يحتلم، وذكر البيهقيُّ أنَّ الشَّافعي علَّق القول به على صحَّة الأثر المذكور، وقد ثبت، فإنَّ رجاله ثقاتٌ، وله شاهدٌ. وقيَّد مالك صحَّتها: بما إذا عقل ولم يخلط، وأحمد: بسبع وعنه بعشرٍ.
          (وَقَالَ اللَّهُ ╡) ويروى: <قال اللهُ تعالى>، وفي روايةٍ: <وقول الله> بالجرِّ عطفاً على قوله: وقول النَّبيِّ صلعم .
          ({كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180]) أي: حَضَرتْ أسبابه وظهرتْ أماراته ({إِنْ تَرَكَ خَيْراً}) أي مالاً، قاله ابن عبَّاسٍ ومجاهد وعطَاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطيَّة العوفي والضَّحَّاك والسُّدي والرَّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيَّان وقتادة وغيرهم، ثمَّ إنَّهم اختلفوا: فمنهم مَن قال: الوصيَّة مشروعةٌ سواء قلَّ المال أو كثر كالوراثة، ومنهم مَن قال: إنَّما يوصي إذا ترك مالاً كثيراً.
          ثمَّ اختلفوا في مقداره: فقال ابن أبي حاتمٍ بإسناده إلى عروة، قال: قيل لعليٍّ ☺: إنَّ رجلاً من قريش قد مات وترك ثلاثمائة ديناراً، أو أربعمائة دينارٍ ولم يوص، قال: ليس بشيءٍ إنَّما قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة:180]. وعن عليٍّ ☺ أنَّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهمٍ فمنعه، وقال: قال اللهُ تعالى: {إِن تَرَكَ خَيرَاً}، والخير هو المالُ الكثير. وعن عائشة ♦: أنَّ رجلاً أراد أن يوصي فسألته كم مالك؟ فقال ثلاثة آلافٍ، فقال: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: إنَّما قال الله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيرَاً} وإنَّ هذا الشَّيء يسيرٌ فاتركه لعيالك.
          وقال الحاكم بن أبان: حدَّثني عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ ☻ : {إِن تَرَكَ خَيرَاً} قال: ((مَن لم يترك ستِّين ديناراً لم يترك خيراً)). وقال الحكم: قال طاوس: لم يترك خيراً مَن لم يترك ثمانين ديناراً. وقال قتادةُ: كان يقال: ألفاً فما فوقها، والظَّاهر أنَّه أمرٌ نسبيٌّ يختلفُ باختلاف الأشخاص والأحوالِ، والله أعلم.
          ({الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}) مرفوعٌ بكُتبٍ، وتذكير فعلها للفصلِ، أو على تأويل أن يوصِي، أو الإيصاء، ولذلك ذكر الرَّاجع في قوله: فمَن بدَّله، وجواب {إِن} محذوفٌ؛ أي: فليوصه، والعامل في إذا مدلول {كُتِبَ} لا {الْوَصِيَّةُ} لتقدُّمه عليها، ولا يجوز أن يكون عاملهُ في الآية {كُتِبَ}؛ لأنَّ كتب الله تعالى وإيجابه لا يحدث وقت حضور الموتِ وأسبابه / بل الحادث تعلُّقه بالمكلَّف وقت حضور سبب موتهِ، بل العامل فيها مدلولُ كتب، وهو تعلَّق الكتب الأزليِّ به، كأنَّه قيل: توجَّه إليكم الإيجاب الأزليُّ إذا حضر أحدكم الموت، فعبَّر عن توجُّه الإيجاب، وتعلُّقه بقوله: {كُتِبَ} للدَّلالة على أنَّ هذا المعنى مكتوبٌ في الأزل، وقيل: مرفوعٌ على أنَّه مبتدأٌ خبره {لِلْوَالِدَيْنِ}، والجملة جواب الشَّرط بإضمارِ الفاء، كقوله: مَن يفعل الحسنات اللهُ يشكرهَا. والمفعول الَّذي يقوم مقام فاعله مضمرٌ؛ أي: الإيصاء يفسِّره ما بعده، وَرُدَّ بأنَّه إنْ صحَّ فمن ضرورات الشِّعر.
          ({بِالْمَعْرُوفِ}) بالعدل فلا يفضِّل الغني، ولا يتجاوز الثُّلث، قال الحسن: المعروف أن يوصِي لأَقْرَبِيْهِ وصيَّةً لا تجحف بورثته من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ.
          ({حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}) مصدرٌ مؤكَّدٌ؛ أي: حق ذلك حقًّا على الذين يتَّقون الشِّرك، اشتملت هذه الآية على الأمر بالوصيَّة للوالدين والأقرَبين، وقد كان ذلك واجباً على أصحِّ القولين قبل نزولِ آية المواريث، فلمَّا نزلت آية المواريث نسخت هذه وصارت المواريث المقرَّرة فريضة من الله يأخذها أهلوهَا حتماً من غير وصيَّةٍ ولا تحمل مؤنة الوصيِّ.
          وقد جاء في الحديثِ في «السنن» وغيرها عن عَمرو بن خارجة ☺، قال: سمعت رسول الله صلعم يخطبُ وهو يقول: ((إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه فلا وصيَّة لوارثٍ))، ويُروى: ((أَلا لا وصيَّة لوارثٍ)).
          وقال ابن أبي حاتمٍ: حدَّثنا الحسن بن محمد بن الصباح: حدَّثنا حجَّاج بن محمد: أنا ابن جريجٍ، وعثمان بن عطاء، عن عطَاء، عن ابن عبَّاسٍ ☻ في قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] نسختها هذه الآية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء:7].
          ثمَّ قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن عمر وأبي مُوسى وسعيد بن المسيَّب والحسن ومُجاهد وعطاء وسعيد بن جبيرٍ ومحمد بن سيرين وعكرمةَ وزيد بن أسلم والرَّبيع بن أنس وقتادة والسُّدي ومقاتل بن حيَّان وطاوس وإبراهيم النَّخعي وشُريح والضَّحَّاك والزُّهري: أنَّ / هذه الآيةَ منسوخةٌ؛ نسختها آية المواريث.
          قال العينيُّ: والعجب من الرَّازيِّ كيف حكى في «تفسيره الكبير» عن أبي مسلمٍ الأصفهاني: أنَّ هذه الآية غير منسوخةٍ، وإنَّما هي مفسَّرةٌ بآية المواريث، ومعناه: كتب عليكم ما أَوصى الله به من توريث الوالدين والأقرَبين من قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء:11] الآية، قال: وهو قولُ أكثر المفسِّرين والمعتبرين من الفقهاء، قال: ومنهم مَن قال: إنَّها منسوخةٌ فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عبَّاسٍ والحسن ومسروق والضَّحَّاك ومسلم بن يسارٍ والعلاء بن زياد.
          قال ابن كثيرٍ: وبه قال أيضاً سعيد بن جبيرٍ والرَّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيَّان، ولكن على قول هؤلاء لا يسمَّى نسخاً في اصطلاحنا المتأخِّر؛ لأنَّ آية المواريث إنَّما رفعت حكم بعض أفراد ما دلَّ عليه عموم آية الوصيَّة؛ لأنَّ الأقربين أعمُّ ممَّن يرث وممَّن لا يرثُ، فرفع حكم مَن يرث بما عين له، وبقي الآخر على ما دلَّت عليه الآية الأُولى.
          وهذا إنَّما يتأتَّى على قول بعضهم إنَّ الوصاية في ابتداء الإسلام إنَّما كانت ندباً حتَّى نُسخت، فأمَّا من قال: إنَّها كانت واجبة، وهو الظَّاهر من سياق الآية فتعيَّن أن تكون منسوخة بآية المواريثِ، كما قال أكثر المفسِّرين والمعتبرين من الفقهاء، فإنَّ وجوب الوصيَّة للوالدينِ والأقربينَ الوارثين منسوخٌ بالإجماع بل منهيٌّ عنه بالحديث المتقدِّم: ((إنَّ الله أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيَّة لوارثٍ))، فآية المواريث حكمٌ مستقلٌّ وإيجابٌ من عند الله لأهل الفروض والعصبات، رُفِعَ بها حكم هذه بالكليَّة، وبقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يُستحبُّ له أن يوصِي لهم من الثُّلث استئناساً بآية الوصيَّة وشُمولها، والآيات والأحاديث بالأمر ببرِّ الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدًّا، والله تعالى أعلم.
          ({فَمَنْ بَدَّلَهُ}) أي: غَيَّرَه من الأوصياءِ والشُّهود، [أي:] ما ذكر من الوصيَّة ({بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}) وصل إليه وتحقَّق عنده، والتَّبديل يكون بالتَّحريف وتغيير الحُكم وبالزِّيادة والنُّقصان، أو بالكتمان.
          ({فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}) / أي: فما إثمُ الإيصاء المغير أو التبديل إلَّا على مبدله؛ لأنَّه الذي حاف وخالف الشَّرع، وقال ابن عبَّاسٍ ☻ وغير واحدٍ: قد وقع أجر الميِّت على الله، وتعلَّق الإثم بالَّذين بدَّلوا ({إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:181]) وعيدٌ للمبدِّل بغير حقٍّ؛ أي: قد اطَّلع على ما أوصى به الميِّت، وهو عليمٌ بذلك، وبما بدله المُوصَى إليهم والشُّهود.
          ({فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ}) أي: توقَّع وعلم، فإنَّ الخوف قد يُستعمل بمعنى العلم، كما في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام:51]، وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]، وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء:35]. ومنه قولهُم: أخاف أن ترسل السَّماء، وقوله تعالى: {مُوصٍ} [البقرة:182] قرئ بالتَّشديد والتَّخفيف.
          ({جَنَفاً}) ميلاً بالخطأ في الوصيَّة، وقرأ عليٌّ ☺: (▬حَيْفاً↨) بالحاء المهملة وسكون المثناة التحتية ({أَوْ إِثْماً}) تعمُّداً للحيف ({فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ}) بين المُوْصَى لهم بإجرائهِم على نهج الشَّرع، أو بين الورثة والمُختلفين في الوصيَّة.
          ({فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}) في هذا التَّبديل، لأنَّه تبديلٌ باطلٌ إلى حقٍّ، ولأنَّه متوسِّطٌ لا مبدل بخلاف الأوَّل ({إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182]) حيث لم يجعل على عبادهِ حرجاً في الدِّين فهو وعد للمصلِح، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنسِ ما يؤثم، وهذه الآيات الثَّلاث مذكورةٌ هكذا عند الأكثرين، وعند النَّسفي الآية الأولى فقط، وفي روايةٍ هكذا: <وقال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} إلى {جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:180-182] >.
          ({جَنَفاً}: مَيْلاً) هذا من قول البخاريِّ، وهو منقولٌ عن عطاء، رواه الطَّبريُّ عنه بإسناد صحيحٍ، ونحوه قول أبي عبيدة في «المجاز»: الجنف: العدول عن الحقِّ. وأخرج عن السدِّي وغيره أنَّ الجنف: الخطأ والإثم العمد.
          ({مُتَجَانِفٍ}: مُتَمَائلٍ) كذا في روايةِ الأكثر، ولأبي ذرٍّ: <مائلٌ> قال أبو عبيدة في «المجاز»: قولهُ: {غيرَ مُتَجانفٍ لإثمٍ}؛ أي: غير مُتَعوِّجٍ مائلٍ للإثم، ونقل الطَّبريُّ عن ابن عبَّاسٍ ☻ وغيرِه أنَّ معناه: غيرُ متعمِّد لإثمٍ.