نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: هل ينتفع الواقف بوقفه؟

          ░12▒ (بابٌ) بالتنوين (هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ) الذي وقفه بأن يقف على نفسه، ثمَّ على غيره، أو بأن يشرط لنفسه جزءاً معيَّناً من ربعه، أو بأن يجعل للنَّاظر على وقفه شيئاً من المنفعة ويجعل النَّظر عليه لنفسه، وفي هذا كلِّه خلافٌ، فلذا ذكر التَّرجمة بكلمة هل الاستفهاميَّة، ولم يذكر الجواب.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وقد وقع قبل الباب في «المستخرج» لأبي نعيم: كتاب الأوقاف، ولم أر ذلك لغيره.
          (وَقَدِ اشْتَرَطَ عُمَرُ ☺) أي: ذلك الشَّرط الذي هو قوله: (لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ) هذه قطعة من قصَّة وقف عمر ☺، وقد ذكره موصولاً في آخر الشُّروط [خ¦2737]، واعترض على المصنِّف بأن ذكره لاشتراط عمر ☺ لا حجَّة فيه؛ لأنَّ عمر ☺ أخرجها من يده ووليها غيره، فجعل لمن وليها أن يأكل على شرطه، وأنت خبير بأنَّ المصنِّف لم يفرِّق بين أن يليه الواقف، وأن يليه غيره بقوله:
          (وَقَدْ يَلِي الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ) وهذا من تفقُّه المصنِّف ☼ ، وهو يشعرُ بأنَّ ولاية النَّظر للواقف جائزة لا نزاع فيها، وليس كذلك فقد ذكر ابن المواز عن مالك أنَّه إن اشترط في وقفه أن يليه هو لم يجز. وعن ابن عبد الحكم قال مالك: إنَّ دفعه الواقف لغيره ليَجْمَعَ غلَّته ولا يتولَّى تفرقتها إلَّا الواقف جاز.
          وقال ابن كنانة: من حبس ناقة في سبيل الله فلا ينتفعُ بشيء منها، وله أن ينتفعَ بلبنها لقيامه عليها، فمن أجاز للواقف أن يليه فإنَّما يجوز له الأكل منه بسبب ولايته عليه، كما يأكل الوصيُّ من مال اليتيم بالمعروف من أجلِ ولايته وعمله.
          وقال ابن بطَّال: لا يجوز للواقف أن ينتفعَ بوقفه؛ لأنَّه أخرجه لله تعالى وقطعه عن ملكه فانتفاعه بشيءٍ منه رجوع في صدقته، وقد نهى الشَّارع عن ذلك، وإنَّما يجوز له الانتفاع به إن شرط ذلك في الوقف / أو إن افتقر الواقف أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه، والذي عند الجمهور جواز ذلك إذا وقفه على الجهة العامَّة دون الخاصَّة كما سيأتي في أواخر كتاب الوصايا [خ¦55/33-4348]، في ترجمة مفردة إن شاء الله تعالى.
          وقال ابن القصَّار: من حبس داراً أو سلاحاً أو عبداً في سبيل الله، فأنفذ ذلك في وجوهه زماناً، ثمَّ أراد أن ينتفعَ به مع النَّاس فإن كان من حاجة فلا بأس. وذكر ابنُ حبيب عن مالك قال: من حبس أصلاً يجري غلَّته على المساكين، فإنَّ ولده يعطونَ منه إذا افتقر، أو كانوا يوم مات أو حبس فقراء أو أغنياء غير أنَّهم لا يعطون جميع الغلَّة مخافة أن يندرسَ الحبس ويكتب على الولد كتاب أنَّهم يعطون ما أعطوا على المسكنة، وليس لهم حقٌّ فيه دون المساكين. واختلفوا إذا أوصى بشيءٍ للمساكين، فغفل عن قسمته حتَّى افتقرَ بعض ورثته، وكانوا يوم أوصى أغنياء أو مساكين. فقال مطرف: أرى أن يعطوا من ذلك على المسكنة، وهم أولى من الأباعد. وقال ابن الماجشون: إن كانوا يوم أوصى أغنياء ثمَّ افتقروا أعطوا منه، وإن كانوا مساكين لم يعطوا منه؛ لأنَّه أوصى وهو يعرف حاجتهم فكأنَّه أزاحهم عنه. وقال ابنُ القاسم: لا يعطون منه شيئاً مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى.
          هذا، وقال ابن بطَّال: وإنَّما منع مالك من أن يليه الواقف سدًّا للذَّريعة لئلَّا يصير كأنَّه وقف على نفسه، أو يطول العهد فينسى الوقف فيتصرَّف فيه لنفسه، أو يموت فيتصرَّف فيه ورثته، وهذا لا يمنع الجواز إذا حصل الأمن من ذلك لكن لا يلزم من أنَّ النَّظر يجوز للواقف أن ينتفع به، نعم إنَّ شرط ذلك جاز على الرَّاجح، ثمَّ إنَّ الذي احتجَّ به المصنِّف من قصَّة عمر ☺ ظاهر في الجواز، وقد قوَّاه بقوله:
          (وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئاً لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ) مشيراً بهذا إلى جواز انتفاع / الواقف بوقفه ما لم يضرَّه، وإن لم يشترط ذلك في أصل الوقف.