نجاح القاري لصحيح البخاري

باب تأويل قول الله تعالى {من بعد وصية يوصى بها أو دين}

          ░9▒ (بابُ تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) ويروى: <قول اللهِ تعالى> ({مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]) أي: بيان المراد بتقديم الوصيَّة في الذِّكر على الدَّين مع أن الدَّين مقدَّم على الوصيَّة وغيرها في الأداء.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وبهذا يظهر السرُّ في تكرار هذه التَّرجمة.
          وقال العينيُّ: لا وجه لذكر التَّأويل هنا؛ لأنَّ حدَّ التَّأويل لا يصدق عليه؛ لأن التَّأويل ما يستخرج بحسب القواعد العربيَّة، وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَو دَيْنٍ} [النساء:11] مفسَّر لا يحتاج إلى تأويلٍ، غاية ما في الباب أنَّه يسأل عن وجه تقديم الوصيَّة على الدَّين، وقد ذكر فيه وجوه، وستأتي إن شاء الله تعالى. انتهى.
          يعني فالمناسب في التَّرجمة أن يقال: باب تقديم الوصيَّة على الدَّين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوْصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} ولا يخفى عليك أنَّ شيئاً ممَّا ذكر في هذا الباب لا يدلُّ على بيان المراد بتقديم الوصيَّة في الذِّكر على الدَّين، كما ستقف إن شاء الله تعالى.
          والَّذي يظهر لي أنَّ المراد أنَّ قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوْصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} ليس على ظاهره من تقديم الوصيَّة على الدَّين في الحكم كما في الذِّكر بل هو مؤوَّل لما ذكر في هذا الباب من الآية والأحاديث والآثار، ولم يذكر المصنِّف وجوه تأويله بل اكتفى ببيان الاحتياج إلى التَّأويل، والله أعلم.
          (وَيُذْكَرُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ) هذا الَّذي ذكره بصيغة التَّمريض طرف من حديث أخرجه التِّرمذي، قال: حدَّثنا ابن أبي عمر، حدَّثنا سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث، عن عليٍّ ☺ / ((أنَّ النَّبي صلعم قضى بالدَّين قبل الوصيَّة وأنتم تقرؤون الوصيَّة قبل الدَّين)).
          وأخرجه أحمد أيضاً، ولفظه: عن عليِّ بن أبي طالب ☺ قال: ((قضى محمَّد صلعم أنَّ الدَّين قبل الوصيَّة، وأنتم تقرؤون الوصيَّة قبل الدَّين)). وإسناده ضعيف؛ لأنَّ فيه الحارث، وهو: ابن عبد الله الأعور.
          قال ابن أبي خيثمة: سمعت أبي يقول: الحارث الأعور كذَّاب، وقال أبو زرعة: لا يحتجُّ بحديثه، وقال ابن المدينيِّ: الحارث كذَّاب، لكن قال التِّرمذي: كان العمل عليه عند أهل العلم. وكأن البخاريَّ اعتمد عليه لاعتضاده بالاتِّفاق على مقتضاه، وإلَّا فلم تجر عادته أن يورد الضَّعيف في مقام الاحتجاج به.
          وقد أورد في الباب ما يعضدهُ أيضاً، ولم يختلف العلماء في أنَّ الدَّين يقدَّم على الوصيَّة إلَّا في صورة واحدة وهي ما لو أوصى لشخص بألف مثلاً، وصدقه الوارث وحكم به ثم ادَّعى آخر أنَّ له في ذمَّة الميِّت ديناً يستغرق موجوده وصدقه الوارث.
          ففي وجه للشَّافعية يُقَدَّمُ الوصيَّةُ على الدَّين في هذه الصُّورة الخاصَّة، ثمَّ قد نازع بعضهم في إطلاق كون الوصيَّة مقدَّمة على الدَّين في الآية؛ لأنَّه ليس فيها صيغة ترتيب، بل المراد أنَّ المواريث إنَّما تقع بعد قضاء الدَّين وإنفاذ الوصيَّة.
          وأتى بأو للإباحة، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ أي: جالس كلَّ واحد منهما اجتمعا أو افترقا، وإنَّما قدمت لمعنى اقتضى الاهتمام بتقديمها، واختلف في تعيين ذلك المعنى. وحاصل ما ذكروه من مقتضيات التَّقديم ستَّة أمور:
          الأوَّل: الخفَّة والثَّقل كربيعة ومضر، فمضر أشرف من ربيعة، لكن لفظ ربيعة لمَّا كان أخفَّ قدم في الذِّكر، وهذا يرجع إلى اللَّفظ.
          الثَّاني: بحسب الزَّمان كعاد وثمود.
          الثَّالث: بحسب الطبع كثلاث ورباع.
          الرَّابع: بحسب الرُّتبة كالصَّلاة / والزَّكاة فإن الصَّلاة حقُّ البدن، والزَّكاة حقُّ المال، والبدن مقدَّم على المال.
          الخامس: تقديم السَّبب على المسبب كقوله تعالى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] قال بعض السَّلف: عزَّ فلمَّا عزَّ حكم.
          السَّادس: بالشَّرف والفضل، كقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69]، وإذا تقرَّر ذلك فقد ذكر السهيليُّ أنَّ تقديم الوصيَّة في الذِّكر على الدَّين؛ لأنَّ الوصيَّة إنَّما تقع على سبيل البرِّ والصِّلة بخلاف الدَّين، فإنَّه يقع غالباً بعد الميِّت بنوع تفريط فوقعت البداية بالوصيَّة لكونها أفضل.
          وقيل: قدمت الوصيَّة؛ لأنَّها شيء يؤخذ بغير عوض والدَّين يؤخذ بعوض، فكان إخراج الوصيَّة أشق على الوارث من إخراج الدَّين، وكان أداؤها مظنَّة التَّفريط، بخلاف الدَّين فإنَّ الوارث مطمئنٌّ بإخراجه فقدِّمت الوصيَّة لذلك.
          وأيضاً هي حظُّ فقير مسكين غالباً، والدَّين حظُّ غريم يطلبه بقوَّة وله مقال، كما صحَّ أنَّ لصاحب الدَّين مقالاً. وأيضاً الوصيَّة ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدِّمت تحريضاً على العمل بها؛ بخلاف الدَّين فإنَّه ثابت بنفسه مطلوب أداؤه سواء ذكر أو لم يذكر. وأيضاً فالوصيَّة ممكنة من كلِّ أحدٍ ولا سيما عند من يقول بوجوبها، فإنَّه يقول بلزومها لكلِّ أحدٍ فيشترك فيها جميع المخاطبين؛ لأنَّها تقع بالمال وبالعهد كما تقدَّم، وقلَّ من يخلو عن شيء من ذلك، بخلاف الدَّين فإنَّه يمكن أن يوجد وأن لا يوجد، وما يكثر وقوعه مقدَّم على ما يقلُّ وقوعه.
          وقال الزَّين بن المنيِّر: تقديم الوصيَّة على الدَّين في اللَّفظ لا يقتضي تقديمها في المعنى؛ لأنَّهما معاً قد ذكرا في سياق البعديَّة، لكنَّ الميراث يلي الوصيَّة في البعديَّة ولا يلي الدَّين بل هو بعد بعده فيلزم أن يقدَّم في الأداء ثم الوصيَّة ثمَّ الميراث، فيتحقَّق حينئذٍ أن الوصيَّة تقع بعد الدَّين حال الأداء باعتبار القبليَّة، فتقديم الوصيَّة على الدَّين في اللَّفظ باعتبار البعديَّة وتقديم الدَّين على الوصيَّة في المعنى، والله أعلم. /
          (وَقَولِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على قوله تعالى المجرور بإضافة تأويل إليه، وفي نسخة: <وقوله تعالى> بالضَّمير بدل لفظ الجلالة، وفي أخرى: <وقول الله ╡>.
          ({إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فَأَدَاءُ الأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ) والآية خطاب يعمُّ المكلَّفين، والأمانات وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدَّار لمَّا أغلق باب الكعبة وأبى أن يدفع المفتاح، وقال: لو علمت أنَّه رسول الله لم أمنعْه فلوى على يده، وأخذه منه، ففتح فدخل رسول الله صلعم وصلَّى ركعتين، فلمَّا خرج سأله العبَّاس ☺ أن يعطيَه المفتاح، ويجمع له السِّقاية والسَّدانة، فأمره الله تعالى أن يَرُدَّه إليه فأمر عليًّا بأن يردَّه ويعتذر إليه، وصار ذلك سبباً لإسلامه ونزل الوحي بأنَّ السَّدانة في أولاده أبداً.
          وآخر الآية: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]: أي: وأن تحكموا بالإنصاف والسَّويَّة إذا قضيتم بين من عليه أمركم أو يرضى بحكمكم، ولأنَّ الحكمَ وظيفةُ الولاة قيل: الخطاب لهم {إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه}؛ أي: نعم شيئاً يعظكم به، أو نعم الشَّيء الذي يعظكم به، فما منصوبة موصوفة بيعظكم به أو مرفوعة موصولة به، والمخصوص بالمدح محذوف، وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) أي: غنى يستظهر به على النَّوائب التي تنوبه. وقال الكِرمانيُّ: لفظ ظهر مُقحم، وهذا التَّعليق مضى مسنداً في كتاب الزَّكاة، / في باب لا صدقة إلَّا عن ظهر غنى [خ¦1426]، ومضى الكلام فيه.
          قال الكِرمانيُّ: والمديون ليس بغنيٍّ، فالوصيَّة التي لها حكم الصَّدقة تعتبر بعد الدَّين، وأراد بتأويل الآية مثله. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ بأنَّ قوله: المديون ليس بغنيٍّ على إطلاقه، لا يصحُّ، والمديون الذي ليس بغنيٍّ هو المديون المستغرق، فجعل مطلق المديون أصلاً، ثمَّ بناء الحكم عليه فيما ذهب إليه غير صحيح، فافهم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : لاَ يُوصِي الْعَبْدُ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ) وصله ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن جندب قال: سأل طهمان ابن عبَّاس ☻ : أيوصي العبد؟ قال: لا إلَّا بإذن أهله، وذكره البخاريُّ في معرض الاحتجاج على تقديم الدَّين على الوصيَّة.
          قال الكِرمانيُّ: قوله: بإذن أهله، وأداء الدَّين الَّذي هو على رقبته لا يتوقَّف على إذنهم، فالدَّين مقدَّم على الوصيَّة.
          وقال العينيُّ: ينبغي أن تكون المسألة على التَّفصيل، وهو أنَّ العبد لا يخلو إمَّا أن يكون مأذوناً له في التصرُّفات أو لا، فإن لم يكن فلا تصحُّ وصيَّته بلا خلاف؛ لأنَّه لا يملك شيئاً فبماذا يوصي، وإن كان مأذوناً له تصحُّ وصيَّته بإذن المولى إذا لم يكن مستغرقاً بالدَّين، قال: فالاستدلال بأثر ابن عبَّاس ☻ لا يتمُّ، فليُتَأمَّل.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ) هذا طرف من حديث تقدَّم ذكره موصولاً في باب كراهية التَّطاول على الرَّقيق، من كتاب العتق من حديث نافعٍ عن ابن عمر ☻ المذكور [خ¦2554].
          وقال ابن المنيِّر: إذا تعارض في مال العبد حقِّه وحقُّ سيِّده قُدِّمَ الأقوى وهو حقُّ السَّيِّد، وجعل العبد مسئولاً عنه، وهو أحدُ الحفظة فيه، فكذلك حقُّ الدَّين لما عارضه حقُّ الوصيَّة، والدَّين واجب والوصيَّة تطوُّع وجب تقديم الدَّين فهذا وجه مناسبة هذا الأثر والحديث للتَّرجمة. /
          هذا، وقال العينيُّ: العبد لا يملك شيئاً أصلاً فكيف يثبت له المال، ثمَّ كيف تثبت المعارضة بين حقِّه وحقِّ سيِّده وما ثمَّة حقٌّ للعبد، وقوله: فكذلك حقُّ الدَّين لمَّا عارضه حقُّ الوصيَّة إلى آخره، ممنوع، كيف وقد قال: والدَّين واجب والوصيَّة تطوُّع، ولا معارضة بين الواجب والتَّطوُّع، ومع هذا، فإن كان مراد البخاريِّ بهذا وجوب تقديم الدَّين على الوصيَّة، فهذا لا نزاع فيه، وإن كان مرادُه جوازَ إقرار المريض للوارث، فلا يساعده شيء ممَّا ذكره في هذا الباب.
          هذا، وقال الكِرمانيُّ: قوله: راع؛ أي: فلا يجوز له التبرُّع فيه؛ بخلاف أداء الدَّين الواجب عليه، أقول: وفيه ما فيه أيضاً.