نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا}

          ░21▒ (باب قَوْلِ اللّهِ ╡: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]) أي: أعطوا اليتامى أموالهم التي تصرَّفتم فيها بالوصاية إذا بلغوا الحلم، واليتامى جمع: يتيم، وهو الَّذي مات أبوه من اليتم، وهو الانفراد.
          ومنه: الدُّرَّة اليتيمة، على أنَّه جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب، جمع على يتائم، ثمَّ قلب فقيل: يتامى، أو على أنَّه جمع على يَتْمَى كَأَسْرى؛ لأنَّه من باب الآفات ثمَّ على يتامى، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصِّغار والكبار، لكنَّ العرف خصَّصه بمن لم يبلغ، ووروده في الآية للبالغين على الأصل أو الاتِّساع لقرب عهدهم بالصِّغر حثًّا على أن يدفع إليهم أموالهم أوَّل بلوغهم، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إن أونس منهم الرُّشد، ولذلك أمر بابتلائهم صغاراً، أو المراد باليتامى غير البالغين والحكم مقيَّد، فكأنَّه قيل: وآتوهم إذا بلغوا.
          ويؤيِّد الأوَّل ما روي أنَّ رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمَّا بلغ طلب المال منه فنزلت، فلمَّا سمعها العمُّ قال: أطعنا الله ورسوله، نعوذ بالله من الحوب الكبير.
          ({ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِبِ}) أي: ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو الأمر الخبيث، وهو اختزال أموالهم بالأمر الطَّيب الذي هو حفظها، وقيل: ولا تأخذوا / الرَّفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها بأن تجعلوا الزَّيف بدل الجيِّد والمهزول بدل السَّمين.
          وقال سعيدُ بن جبير والزُّهري: لا تعطِ مهزولاً وتأخذ سميناً، وقال السُّدي: كان أحدهم يأخذ الشَّاة السَّمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشَّاة المهزولة، يقول: شاةٌ بشاةٍ ويأخذ الدِّرهم الجيِّد ويطرح مكانه الزَّيف يقول: درهم بدرهم، وقال سفيان الثَّوري: عن أبي صالح: لا تعجل بالرِّزق الحرام قبل أن يأتيك الرِّزق الحلال.
          ({ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ إلَى أمْوالِكُمْ} [النساء:2]) أي: ولا تأكلوها مضمومةً إلى أموالكم؛ أي: لا تنفقوهما معاً ولا تسوُّوا بينهما، وهذا حلالٌ وذاك حرامٌ. قال سعيد بن جبير ومجاهد ومقاتل بن حيان والسُّدي وسفيان بن حسين؛ أي: لا تخلطوها فتأكلوها جميعاً وهو فيما زادَ على قدر أجره؛ لقوله تعالى: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] وقيل: إلى بمعنى مع، والأجود أن يكون بمعناها بتضمين معنى الضَّم.
          ({إِنَّهُ}) أي: الأكل ({كَانَ حُوْباً كَبِيراً} [النساء:2]) أي: ذنباً عظيماً وإثماً كبيراً، هكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة والضَّحاك وآخرين، وروى ابنُ مردويه في «تفسيره» بإسناده إلى واصل مولى ابنِ عيينة عن محمَّد بن سيرين، عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ أبا أيُّوب ☺ طلَّق امرأته فقال له النَّبي صلعم : ((يا أبا أيوب، إنَّ طلاق أمِّ أيوب كان حوباً))، وقال ابنُ سيرين: الحوبُ الإثم، وقرئ: (▬حَوباً↨)، وهو مصدر حاب حوباً وحاباً، كقال قولاً وقالاً.
          (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}) يريد قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] أي: إن خفتُم أن لا تعدلوا في يتامى النِّساء إذا تزوَّجتم بهنَّ، فتزوجوا ما طاب من غيرهنَّ إذا كان الرَّجل يجد يتيمةً ذاتَ مالٍ وجمال فيتزوَّجها ضناً بها فربما يجتمع عنده عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهنَّ، أو المعنى إن خفتُم في حقوق اليتامى فتحرَّجتم منها فخافوا أيضاً أن لا تعدلوا / بين النِّساء وانكحوا مقدار ما يمكنكُم الوفاء بحقِّه؛ لأنَّ المتحرج من الذَّنب ينبغي أن يتحرَّج الذُّنوب كلَّها على ما روي أنَّه تعالى لمَّا عظم أمر اليتامى تحرجوا من ولايتهم وما كانوا يتحرَّجون من كثرة النِّساء وإضاعتها فنزلت، وقيل: كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزِّنا، فقيل لهم: إن خفتُم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزِّنا فانكحوا ما طاب لكم.
          وقيل: معناه إذا كانت تحت حجر أحدكم يتيمةً وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدلْ إلى ما سواها من النِّساء فإنهنَّ كثير ولم يضيِّق الله، وقيل: كانت قريش في الجاهلية يكثرون التَّزوج بلا حصر فإذا كثرت عليهم المؤن وقلَّ ما بأيديهم أكلوا ما عندهم من أموال اليتامى فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا إلى الأربع.
          وإنَّما عبَّر عنهنَّ بما؛ ذهاباً إلى الصِّفة وإجرائهنَّ مجرى غير العُقلاء لنقصان عقلهنَّ ونظيره: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، وقرئ: (▬أن تَقسطوا↨) بفتح التاء على أنَّ لا مزيدة؛ أي: إن خفتُم أن تجوروا {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} معدولةٌ عن أعدادٍ مكرَّرة؛ أي: ثنتين ثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع، ومعناه: الإذن لكلِّ ناكحٍ يريد الجمع أن ينكحَ ما شاء من العدد المذكور متَّفقين فيه ومختلفين كقولك: اقسموا هذه البدرة درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة، ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التَّوزيع، ولو ذكر بأو لذهب تجويزُ الاختلاف في العدد.
          {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} بين هذه الأعداد أيضاً {فَوَاحِدَةً} فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع، وقرئ بالرفع على أنَّه فاعل محذوفٌ أو خبره تقديره: فيكفيكم واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} سوَّى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري لخفَّة مؤنتهنَّ وعدم وجوب القسم بينهنَّ {ذَلِكَ} أي: التَّقليل / منهنَّ أو اختيار الواحدة أو التَّسرِّي {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] أي: أقرب أن لا تميلوا يقال: عال الميزان إذا مال، وعالَ الحاكم إذا جار، وعول الفريضة الميل عن حدِّ السِّهام المسمَّاة، وفسِّر بأن لا يكثر عيالكم على أنَّه من عال الرَّجل يعولهم إذا مانهم فعبَّر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية، ويؤيِّده قراءة أن ((لا تعيلوا)) من أعال الرَّجل إذا كثر عياله، ولعلَّ المراد بالعيالِ الأزواج وإن أُريد الأولاد فلأنَّ التَّسري مظنَّة قلَّة الولد بالإضافة إلى التَّزوُّج لجوازِ العزل فيه كتزوُّج الواحدة بالإضافة إلى تزوّج الأربع، والله تعالى أعلم.
          ثمَّ إنَّ هذا الباب وثلاثة أبواب بعده مترجمة بآيات من القرآن أدخلها بين أبواب الوقف المذكورة في كتاب الوصايا لمناسبة بينهما من جهة أنَّ الأمر في الأوقاف كالنَّظر لليتامى في رعاية المصالح والمباشرة بالأماناتِ وإباحة تناول العمالة للنظَّار بالمعروف كإباحتها للأوصياءِ بالمعروف، والله أعلم.