الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب الوكالة في الحدود

          ░13▒ (باب: الوَكالة في الحُدود)
          قالَ العَينيُّ: أي: في بيان حكم الوكالة في إقامة الحدود. انتهى.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: أي: جوازها كسائر الحقوق، بل يتعيَّن التَّوكيل في قصاص الطَّرف وحدِّ القذف كما سيأتي في موضعهما. انتهى.
          وقالَ العَينيُّ: واختلف العلماء في الوكالة في الحدود والقصاص، فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنَّه لا يجوز قَبُولها في ذلك، ولا يقام الحدُّ والقصاص حتَّى يحضر المدَّعي، وهو قول الشَّافعيِّ، وقال ابن أبي ليلى وجماعة: تُقبل الوكالة في ذلك، وقالوا: لا فرق بين الحدود والقصاص والدُّيون إلَّا أن يدَّعِيَ الخصم أنَّ صاحبه قد عفا عنه فتوقَّف عن النَّظر فيه حتَّى يَحضر(1). انتهى.
          وقالَ العلَّامةُ النَّوويُّ تحت حديث الباب: قوله: (فأمر بها فرُجِمت) وفي بعضها: ((وأمر النَّاس فرجموها)) فيها كلِّها دلالة لمذهب الشَّافعيِّ ومالك وموافقيهما أنَّه لا يلزم الإمامَ حضورُ الرَّجْم، وكذا لو ثبت بشهود لم يلزمهم الحضور، وقال أبو حنيفة وأحمد: يحضر الإمام مطلقًا وكذا الشُّهود إن ثبت ببيِّنة، ويبدأ الإمام بالرَّجم إن ثبت بالإقرار، وإن ثبت بالشُّهود بدأ الشُّهود. انتهى.
          قلت: وفي «الدُّرِّ المختار» تحت قوله: (والشَّرط / بَدأةُ(2) الشُّهود به) أي: بالرَّجم، (ثمَّ الإمام) هذا ليس حتمًا كيف وحضوره ليس بلازم؟ قاله ابن الكمال، وما نقله المصنِّف عن الكمال رواه(3) في «النَّهر»، قال ابن عابدين: لم ينقله ابن الكمال عن أحد وهو محتاج إلى النَّقل، فإنَّه خلافُ ظاهرِ المتون. انتهى.
          ثمَّ اعلم أنَّ الوكالة في الحدود يحتمل وجهين:
          أحدهما: الوكالة في استيفائها.
          والثَّاني: في إثباتها.
          واختلف العلماء في المسألتين كما تقدَّم بعضُ الخلاف في ذلك، وترجمة المصنِّف يحتمل وجهين، وحديث الباب _أعني حديث الغامديَّة_ يمكن الاستدلال به على المسألتين، وحمل العلَّامة العينيُّ التَّرجمة على الوِكالة في إقامة الحدود ولم يتعرَّض له الحافظ.
          وقال صاحب «البدائع»: التَّوكيل لا يخلو إمَّا أن يكون بحقوق الله ╡ وهي الحدود، وإمَّا أن يكون بحقوق العباد، والتَّوكيل بحقوق الله نوعان:
          أحدهما: بالإثبات.
          والثَّاني: بالاستيفاء.
          أمَّا التَّوكيل بإثبات الحدود فإن كان حدًّا لا يحتاج فيه إلى الخصومة كحدِّ الزِّنا وشرب الخمر، فلا يتقَدَّر التَّوكيل فيه بالإثْبات لأنَّه يَثْبت عند القاضي بالبيِّنة أو الإقرار مِنْ غير خصومة، وإن كان ممَّا يحتاج فيه إلى الخصومة كحدِّ السَّرقة وحدِّ القذف فيجوز التَّوكيل بإثباته عند أبي حنيفة ومحمَّد، وعند أبي يوسف لا يجوز ولا تُقبل البيِّنة فيهما إلَّا مِنَ المُوَكِّل، وكذلك الوكيل بإثبات القصاص على هذا الخلاف.
          وأمَّا التَّوكيل باستيفاء حدِّ القذف والسَّرقة فإن كان المقذوف والمسروق منه حاضرًا وقت الاستيفاء جاز لأنَّ ولاية الاستيفاء إلى الإمام وأنَّه لا يقدر على أنَّ يتولَّى الاستيفاء بنفسه على كلِّ حال، وإن كان غائبًا اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يجوز، وقال بعضهم: لا يجوز(4)... إلى آخر ما بسطه، ولم يذكر حكم التَّوكيل بالاستيفاء في حدِّ الزِّنا وشرب الخمر.
          وقال في «كتاب الحدود»: وأمَّا شرائط جواز إقامتها فمنها ما يعمُّ الحدود كلَّها، ومنها ما يخصُّ البعض دون البعض، أمَّا الَّذِي يعمُّ الحدود كلَّها فهو الإمامة وهو أن يكون المقيم للحدِّ هو الإمام أو مَنْ ولَّاه الإمام، وهذا عندنا، وعند الشَّافعيِّ: هذا ليس بشرط.
          وقال في موضع آخر: وللإمام أن يستخلف على إقامة الحدود لأنَّه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه لأنَّ أسباب وجوبها توجد في أقطار دار الإسلام، ولا يمكنه الذَّهاب إليها، وفي الإحضار إلى مكان الإمام حرج عظيم(5)... إلى آخر ما بسط في «الدلائل».
          وتقدَّم فيه الخلاف عندنا عن «الدُّرِّ المختار» وهذا تفصيل مذهبنا الحنفيَّة. وأمَّا عند الحنابلة: فيجوز التَّوكيل في إثبات الحدود واستيفائها جميعًا كما في «المغني»، وقال: ولنا حديث أُنيس، فإنَّ النَّبيَّ صلعم وكَّله في إثباته واستيفائه جميعًا، وأمَّا عند الشَّافعيَّة: ففي «تحفة المحتاج»: ويصحُّ [التوَّكيل] في استيفاء عقوبة آدميٍّ كقصاص وحدِّ قذفٍ، ويصحُّ أيضًا في استيفاء عقوبة لله، ولكنْ مِنَ الإمام أو السَّيِّد لا في إثباتها مُطْلقًا، وقيل: لا يجوز التَّوكيل في استيفائهما إلَّا بحضرة الموكِّل. انتهى.
          ويُستفاد مِنَ «المغني» جواز التَّوكيل في الاستيفاء وعدم جوازه في الإثبات عند الشَّافعيَّة.


[1] عمدة القاري: ج12/151
[2] في (المطبوع): ((بداءة)).
[3] في (المطبوع): ((رده)).
[4] بدائع الصنائع:6/21 وما بين حاصرتين من البدائع وقد سقط مِنَ الأصلِ
[5] بدائع الصنائع:7/49، 7/58