التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يدخل الدجال المدينة.

          ░27▒ بَابٌ لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ
          7132- ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا النَّبِيُّ صلعم عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حدَّثَنَا بِهِ أَنَّهُ قَالَ: (يَأْتِي الدَّجَّالُ _وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ_ فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ وهُوَ خَيْرُ النَّاس _أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاس_ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ).
          7133- وحديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (عَلَى أنَّقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ).
          7134- وحديثَ أَنَسٍ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللهُ).
          الشَّرح: قد سَلَفَ في البابِ الَّذي قبلَ هذا الكلامُ على حديثِ أَبِي سَعِيدٍ.
          وفيه وفي حديثِ أبي هُرَيْرَةَ وأَنَسٍ فَضْلُ المدينةِ وأنَّها خُصِّتْ بهذه الفضيلةِ واللهُ أعلمُ لِبَرَكَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صلعم ودُعائِه لها، وقد أراد الصَّحابةُ أن يَرْجِعوا إلى المدينةِ حينَ وَقَع الوباءُ بالشَّام ثقةً منهم بقولِهِ الَّذي أمَّنهم مِن دخولِ الطَّاعونِ بَلَدَهُ، وكذلك تَوقُّنِ أنَّ الدَّجَّالَ لا يستطيعُ دخولَها البتَّةَ.
          وفي ذلك مِن الفقه أنَّ الله يوكِّل بالمدينةِ ملائكةً تَحفظُ بني آدمَ مِن الآفاتِ والفِتَنِ إذا أرادَ اللهُ حِفْظَهم، وقد وصف الله ذلكَ في قولِه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} الآية [الرعد:11] يعني بأمرِ الله لهم بحفْظِه. وَرَوَى عليُّ بن مَعْبَدٍ: حدَّثنا بِشْرُ بن بكْرٍ عن الأَوْزَاعِيِّ عن إِسْحَاقَ بن عبدِ الله عن أنسِ بن مالكٍ ☺ رَفَعَهُ: ((ليسَ مِن بَلَدٍ إلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلَّا مكَّةَ والمدينةَ، ليس مِن نَقْبٍ مِن أَنْقَابِها إلَّا عليه الملائكةُ صافِّين يحرسونَها، فينزِلُ السَّبَخة فَتَرْجُفُ المدينةُ ثلاثَ رَجَفَاتٍ فيُخرِجُ اللهُ إليه كلَّ منافقٍ)).
          فَصْلٌ: قولُه: (مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ) أي ممنوعٌ مِن ذلك ليس يريد أنْ يمتنِعَ لأنَّه حرامٌ عليه فيمتنعُ لأجل تحريمِهِ.
          فَصْلٌ: الأنقابُ الطُّرق، واحدُها: نَقْبٌ، ومنه قولُه تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي البِلادِ} [ق:36] أي جَعَلُوا فيها طُرُقًا ومسالكَ، وقال صاحبُ «العين»: النَّقْبُ والنِّقْبُ والمَنْقَبَةُ الطَّرِيقُ في رأسِ الجَبَلِ.
          فَصْلٌ: وقولُه في الرِّوايةِ الأُولى: (نِقَابَ) جمْعُ نَقْبٍ ساكِنِ القافِ كَكَلْب وكِلَاب، لكنْ فَعْلٌ إذا كان ساكنَ العين لا يُجمَعُ أفعالًا إلَّا حروفًا نَدَرَت منها فَرْخُ وأَفْرَاخ ونَصْرٌ وأنصارٌ، وإنَّما يُجمَعُ على فِعَالٍ وفُعُولٍ وأَفْعُلٍ، والنَّقْبُ: الطَّريقُ في الجبلِ كذا في «المجمل» عن ابن السِّكِّيت، وكذا في «الصِّحاح»، وقال الأخْفَشُ: هي الطُّرُقُ الَّتي يسهِّلُها النَّاسُ في الجبل. وقال الهَرَوِيُّ: هو الطَّرِيق بين الجبلَين. وقال أبو عبد الملك: أَنْقَابُ المدينة فِجَاجُها الَّتي حولَها ومداخِلُها. وقال الخطَّابيُّ: ذَكرَ إِثْرَ قولِه: (نِقَابَ المَدِينَةِ) (بَعْضَ السِّبَاخِ) فإنْ كانَ المرادُ به اسمَ بقعةٍ بعيْنِها وإلَّا فهو الطَّريقُ في الجبلِ، كأنَّه أرادَ أنَّ الدَّجَّال لا يَدخُلُ المدينةَ مِن طُرُقِها.
          فَصْلٌ: وقولُه: (مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً) أي أَثْبَتَ نَفْسًا، وإذا قال له الرَّجُلُ ذابَ الدَّجَّالُ كما يذوبُ الملْحُ في الماء، قاله الدَّاوُدِيُّ.
          فَصْلٌ: والطَّاعونُ الموتُ مِن الوباءِ، وقال الدَّاوُدِيُّ: هو حيَّةٌ تخرج في الأرْفَاغِ وفي كلِّ شيءٍ مِن الإنسانِ كان عذابًا أُرْسل على بعضِ الأُممِ ثمَّ بَقِيَ منه بقيَّةٌ فهو على الكافر عذابٌ وللمؤمن شَهَادةٌ.