التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تغيير الزمان حتى يعبدوا الأوثان

          ░23▒ بَابُ تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الْأَوْثَانُ
          7116- ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ صلعم يَقُولُ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ). وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
          7117- وحديثَ أَبِي الْغَيْثِ سَالِمٍ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا ☺ أَنَّ رَسُولَ صلعم قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ).
          الشَّرحُ: الحديثُ الأوَّلُ ظاهرٌ فيما ترجَمَ له، وذَكَرَ مُسلمٌ في «كتابِه» ما يبيِّنُهُ مِن حديثِ عَائِشَةَ ♦ قالت: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: ((لا يذهبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حتَّى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى)) فقلتُ: يا رسولَ الله، إنْ كنتُ لأظنُّ حين أنزلَ اللهُ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ} إلى قولِه: {وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [الصف:9] أنَّ ذلك تامٌّ، قال: ((إنَّهُ سيكونُ مِن ذلك ما شاء اللهُ، ثمَّ يَبعثُ اللهُ ريحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كلَّ مَن في قلبِه مِثْقالُ حبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ، فيَبْقَى مَن لا خيرَ فيه فيرجِعُون إلى دينِ آبائِهم)).
          وهذه الأحاديثُ وما جانَسَها معناها الخُصُوصُ وليس المرادُ بها أنَّ الدِّينَ ينقطِعُ كلُّه في جميع أقطارِ الأرض حتَّى لا يبقى منه شيءٌ؛ لأنَّه قد ثبتَ عنه صلعم أنَّ الإسلامَ يبقَى إلى قيامِ السَّاعةِ إلَّا أنه يَضْعُفُ ويعودُ غريبًا كما بدأ.
          وَرَوَى حمَّادُ بن سَلَمَةَ عن قَتَادَةَ عن مُطَرِّفٍ عن عِمْرَانَ بنِ حُصينٍ قال: قال النَّبِيُّ صلعم: ((لا تزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلونَ على الحقِّ ظاهرين حتَّى يقاتِلَ آخرُهم المسيحَ الدَّجَّال)) وكان مُطَرِّفٌ يقول: هُم أهلُ الشَّام، فَبَيَّن في هذا الحديثِ خُصُوصَهُ سائرَ الأخبارِ الَّتي خرجتْ مخرجَ العُمُومِ، وصِفَةُ الطَّائفةِ الَّتي على الحقِّ مقيمةٌ إلى قيامِ السَّاعةِ أنَّها بِبَيْتِ المقدِسِ دونَ سائرِ البِقَاع، فبِهذا تأتلِفُ الأخبارُ ولا تتعارَضُ، وقد سَلَفَ هذا في كتابِ العِلمِ في بابِ مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقِّهْهُ في الدِّين.
          فإنْ قلتَ: فَمَا وجْهُ حديثِ القَحْطَانيِّ الَّذي يسوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ هنا؟ وقد قال الإسْمَاعيليُّ: إنَّه ليس مِن ترجمةِ البابِ في شيءٍ. قلتُ: أجاب عنه المُهَلَّب بأنَّ وجهَهُ أنَّه إذا قام رجلٌ مِن قَحْطَانَ ليسَ مِن فَخِذِ النُّبُوَّةِ ولا مِن رَهْطِ الشَّرَفِ الَّذين جَعَلَ اللهُ فيهم الخلافةَ فذلك مِن أكبرِ تغيُّرِ الزَّمانِ وتبديلِ أحوال الإسلام أنْ يدَّعِيَ الخِلافَةَ وأن يُطَاعَ في الدِّين مَن ليس مِن أهلَ ذلك.
          فَصْلٌ: سَلَفَ ذِكْرُ القَحْطَانيِّ وإنكارُ مُعَاويَة ذِكْرَهُ. وذو الخَلَصَةِ ضَبَطَهُ عبدُ الملِك بن هِشَامٍ وابنُ إِسْحَاقَ بفتْحِ اللَّامِ والخاء، وضَبَطَهُ غيرُه بضمِّهمَا كما سَلَفَ في موضعِه، ووقع في «كتاب مسلمٍ» أنَّه كان يُقال له الكَعْبةُ اليمانيَّةُ والشَّاميَّة، وهو مُشكِلٌ ومعناهُ أنَّ ذا الخَلَصَةِ كان يُقال له الكَعْبةُ اليمانيَّةُ والكَعْبةُ الشاميَّةُ البيتُ الحرامُ، فزِيادتُه له في الحديثِ سهْوٌ وبإسقاطِه يصحُّ المعنى، قاله بعضُ المحدِّثين، وهو في «جامع البُخَارِيِّ» بإسقاطٍ له، وأمَّا السُّهَيليُّ فقال: ليس هو بسهوٍ عندي، وإنَّما معناه كان يُقال له، أي يُقال مِن أجْلِه الكَعْبةُ الشَّاميَّةُ للكَعْبةِ، وهو الكَعْبةُ اليمانيَّةُ، وله بمعنى لِأجْلِه لا يُنكَرُ في العربيَّةِ.
          قال عُمَرُ بن أبي رَبِيعة:
وَقُمَيْرٌ بَدَا لَنَا آخِرَ اللَّيْلِ لَهُ                     قالت له الفَتَاتانِ قُومَا /
          وذو الخَلَصَةِ بيتٌ لِدَوْسٍ، وجَعَلَ مكانَه مَسْجِدًا بالعَبلاءِ مِن أرْضِ خَثْعَمَ فيما ذكرَهُ أبو عُبَيدٍ، والخَلَصَةُ في اللُّغَةِ نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيح يتعلَّقُ بالشَّجَرِ له حَبٌّ كَعِنَبِ الثَّعلَبِ، وجمْعُ الخَلَصَةِ خَلَصٌ، قاله أبو حنيفةَ في «نباته» وأوضَحَهُ، وذَكَرَ أبو الفَرَجِ الأَصْبَهانيُّ في «كتابِه» أنَّ امْرَأَ القَيْسِ بنَ حُجْر حين وَتَرَهُ بنو أَسَدٍ بِقَتْلِ أبيه استقسمَ عند ذي الخَلَصَةِ بِثَلَاثَةِ أَزْلَامٍ الزَّاجِرِ والآمِرِ والمتربِّصْ فَخَرَجَ له الزَّاجرُ فَسَبَّ الصَّنَمَ ورماهُ بالحِجَارة وقال له: اعْضُضْ بَظْرَ أُمِّك، ثمَّ قال:
لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخَلَصِ الْمَوْتُورَا
دُونِي وكانَ شَيْخُكَ المَبْتُورَا
لَمْ تَنْهَعَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا
          قال: فلم يَسْتَقْسِمْ عندَه أحدٌ بعدُ حتَّى جاءَ الإسلام فَهَدَمَهُ جريرٌ البَجَليُّ قبل وفاةِ رسولِ الله صلعم بشهرينِ.
          فَصْلٌ: (أَلَيَاتُ) بفتْحِ الألِفِ واللامِ مِثْلُ صَلَوَات، وهذا إخبارٌ منه صلعم بما يكون في آخِرِ الزَّمانِ، يريدُ أنَّ نساء دَوْسٍ يركبْنَ الدَّوابَّ إلى هذِه الطَّاغية مِن البُلدانِ فهو اضطرابُ أَلَيَاتهنَّ، والأَلْيَةُ بفتْحِ الهمزةِ ولا يُقال بكسْرِها ولا لِيَّةَ، فإذا ثنَّيْتَ قُلْتَ أَلْيَانِ ولا يخلفُهُ التاء، ويُقال: رجلٌ آلَى أي عظيمُ الأَلْيَة والمرأةُ عَجْزَاءُ، ولا يُقال: أَلْيَاء.