التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ظهور الفتن

          ░5▒ بَابُ ظُهُورِ الْفِتَنِ
          7061- ذَكَرَ فيه حديثَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ العِلْمُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ). قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أَيُّمَ هُوَ؟ قَالَ: (القَتْلُ القَتْلُ). وَقَالَ شُعَيْبٌ وَيُونُسُ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          7062- 7063- وحديثَ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ وَأَبِي مُوسَى قَالَا: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ) وَالْهَرْجُ: القَتْلُ.
          7064- وفي لَفْظٍ: جَلَسَ عَبْدُ اللهِ وَأَبُو مُوسَى فَتَحَدَّثَا، وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ ◙. بِمِثْلِهِ.
          7065- وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ مَعَ عَبْدِ الله وَأَبِي مُوسَى ☻، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم مِثْلَهُ، وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: القَتْلُ.
          7066- 7067- وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ أَيْضًا وَأَحْسِبُهُ رَفَعَهُ، قَالَ: (بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ، يَزُولُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ فِيهَا الْجَهْلُ) قَالَ أَبُو مُوسَى: وَالْهَرْجُ: القَتْلُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ.
          وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ: تَعْلَمُ الْأَيَّامَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلعم أَيَّامَ الْهَرْجِ. نَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: (مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ).
          الشَّرح: حديثُ يُونُسَ أخرجه أبو داودَ عن أحمدَ بنِ صالِحٍ عن عَنْبَسَةَ عن يُونُسَ عن الزُّهْرِيِّ عن حُمَيدِ بن عبدِ الرحمن بن عَوفٍ به، وحديثُ اللَّيثِ رواه أبوبكْرٍ عن ابنِ المبارَك عنه، وحديثُ عُبَيدِ الله بن موسى عن الأَعْمَشِ، كذا هو في الأُصُول، ووقع عند أبي زَيْدٍ: حدَّثنا مسدَّدٌ حدَّثنا عُبَيد الله بن مُوسَى، قال الجَيَّانيُّ: وهو وَهَمٌ.
          فَصْلٌ: قد عرفتَ أنَّ تفسيرَ الهَرْجْ ذَكَرَهُ مرَّةً ما ظاهره الرَّفع، ومرَّةً مِن كلامِ أَبِي مُوسى وأنَّه بِلُغَةِ الحَبَشِ، وكذا ساقه الحَرْبيُّ في «غريبِه» مِن كلامِ أبي موسى قال: الحَبَشُ يَدْعُون القَتْلَ الهَرْجَ، وهو بِتَسْكينِ الرَّاءِ وأصلُه الفِتنةُ والاختلاطُ، قال ابنُ قيسٍ الرُّقيَّاتِ:
لَيْتَ شِعْرِي أَأَوَّلُ الهَرْجِ هَذَا                     أَمْ زَمَانُ فِتْنَةٍ غَيْرِ هَرْجِ
          يعني أوَّلَ الهَرْجِ المذكورِ في الحديثِ هذا أم زمانُ فِتْنَةٍ سوى ذلك؟
          وعن صاحب «العين»: الهَرْجُ مِثَالُ لَغْبٍ، القِتَالُ والاختلاطُ. وعن ابنِ دُرَيدٍ: الهَرْجُ الفِتنةُ في آخِرِ الزَّمانِ. وفي «المحكَم»: الهَرْجُ شِدَّةُ القَتْلِ وكثَرَتُه، والهَرْجُ كثرَةُ النِّكاح، والهَرْجُ كثرةُ النَّومِ وكثرةُ الكَذِبِ، وفي «المنتهى» لأبي المعالي: والهَرْجُ كثرةُ الاحتلامِ. وفي «الصِّحاح»: أصْلُ الهَرْجِ الكثْرَةُ في الشَّيءِ، ومنه قولُهم في الجِمَاعِ: باتَ يَهْرِجُها اللَّيلةَ جميعًا.
          وقولُه: (وَالهَرْجُ بِلِسَانِ الحَبَشِ: القَتْلُ) هذا ليس مِن لفظِ الحَبَشِ ولا مِن كلامِ رسولِ الله صلعم.
          فَصْلٌ: في «صحيح مُسْلمٍ» مِن حديثِ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ ☺: ((العِبَادةُ في الهَرْج كَهِجْرةٍ إليَّ)) وأخرجه التِّرْمِذِيُّ أيضًا، وقال: حديثٌ صحيحٌ، إنَّما نعرفُه مِن حديثِ المعلَّى بنِ زِيَادٍ.
          فَصْلٌ: رَوَى ابنُ ماجه مِن حديثِ الحَسَنِ عن أَسِيدِ بنِ المُتَشمِّس عن أبي مُوسى بعد قولِه ◙: ((الهَرْجُ القَتْلُ)) قال رَجُلٌ مِن المسلمين: يا رسول الله إنَّا نَقتُلُ الآن في العامِ الواحدِ مِن المشركينَ كذا وكذا، فقال ◙: ((ليس بِقَتْلِ المشركينَ، ولكن يقتُلُ بعضُكم بعضًا؛ حتَّى يقتُلَ الرَّجُلُ جارَه وابنَ عمَّه وذا قرابَتِه)) فقال بعضُ القومِ: يا رسولَ الله، ومعنَا عُقولُنا ذلك اليومَ؟! فقال: ((لا؛ تُنْزَعُ عُقُولُ أكْثَرِ ذلك الزمانِ، ويَخْلُفُ له هباءٌ مِن النَّاسِ لا عُقُولَ لهم)) ثمَّ قال الأَشْعَريُّ: واللهِ إنِّي لَأَظُنُّها تُدرِكُني وإيَّاكم، وايْمُ اللهِ لي ولكم منها مَخْرَجٌ إْن أدركتْنا فيما عَهِدَ إلينا نبيُّنا إلَّا أنْ نخرُجَ منها كما دَخَلْنا فيها. وعندَ ابنِ أبي حاتِمٍ: ((ولكن قَتْلُكُم أنفُسَكم)) وقال أبوه: هو وَهَمٌ.
          فَصْلٌ: قد سَلَفَ في تقارُبِ الزَّمانِ هل / هو اعتدالُ اللَّيلِ والنَّهار أو إذا دنا قيامُ السَّاعةِ أو أنَّ السَّاعاتِ والأيَّامِ واللَّيالِي تَقْصُرُ. وقال الطَّحاويُّ: قد يكون معناه تقارُبَ أحوالِ أهلِه في تَرْكِ طلبِ العلمِ خاصَّةً والرِّضا بالجهلِ، وذلك لأنَّ النَّاسَ لا يتساوَوْنَ في العِلْمِ لِتفاوتِ دَرَجِهِ، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وإنَّما يتساوَوْنَ إذا كانوا جُهَّالًا.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: معناه واللهُ أعلمُ تقارُبُ أحوالِه في أهلِه في قِلَّةِ الدِّينِ حتَّى لا يكونَ فيهم مَن يأمُرُ بمعروفٍ ولا يَنهَى عن مُنكرٍ لِغَلَبَةِ الفِسْقِ وظُهورِ أهلِهِ، وقد جاء في الحديثِ: ((لا يزالُ النَّاسُ بخيرٍ ما تَفَاضلُوا فإذا تَسَاوَوْا هَلَكُوا)) يعني لا يزالون بخيرٍ ما كان فيهم أهلُ فضلٍ وصلاحٍ وخوفٍ لله يُلجَأُ إليهم عند الشَّدائدِ ويُستَشْفَى بآرائِهم ويُتبرَّكُ بدُعائِهم ويُؤخَذُ بقولِهم وآثارِهم.
          وذَكَرَ الخطَّابيُّ أنَّ حديثَه الآخَرَ أنَّه: ((يتقارَبُ الزَّمانُ حتَّى تكونَ السَّنَةُ كالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كالجُمُعَةِ، والجُمُعَةُ كاليومِ، واليومُ كالسَّاعةِ)) فإنَّ حمَّادَ بنَ سَلَمَةَ قال: سألتُ عنه أبا سُلَيْمانَ فقال: ذلك مِن استلذاذِ العيشِ، يريدُ والله أعلم خروجَ المهديِّ ووقوعَ الأَمَنَةِ في الأرضِ بِبَسْطِ العدْلِ فيها، فيُستلَذُّ العَيْشُ عند ذلك وتُستقْصَرُ مُدَّتُهُ، ولا يزال النَّاسُ يَستقصرون أيَّامَ الرَّخاءِ وإنْ طالتْ ويستطيلون أيَّام المكروهِ وإن قَصُرَتْ، ولِلْعَرَبِ في مِثْلِ هذا كقولهم: مَرَّ بنا يومٌ كَعُرْقُوبِ القَطَا قِصَرًا.
          فصلٌ: (الزَّمَنُ) بفتْحِ الميمِ جمْعُه أَزْمُن وهو شاذٌّ؛ لأنَّ فَعَلًا بالفتْحِ لا يُجمَعُ على أفعالٍ إلَّا حروفًا يسيرةً زَمَنٌ وأَزْمُن، وحَبَلٌ وأَحْبُل، وعَصَبٌ وأعصُب.
          فصلٌ: وقولُه: (مِنْ شِرَارِ النَّاسِ...) إلى آخرِه، هو إخبارٌ عن أنَّ الكُفَّارَ والمنافقينَ شِرَارُ الخَلْقِ وهم حينئذٍ أحياءُ إذْ ذاك؛ قاله ابن التِّين. قال ابنُ بطَّالٍ: وهو وإن كان لفظُهُ العُمُومَ فالمرادُ به الخُصُوصُ، ومعناه أنَّ الساعةَ تقومُ في الأغلبِ والأكثرِ على شِرَارِ النَّاسِ بدليلِ قولِه ◙: ((لا تزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتي على الحقِّ منصورةً لا يضرُّها مَن نَاوَأَها حتَّى تقومَ السَّاعةُ)) فدلَّ هذا الخبرُ أنَّ السَّاعةَ أيضًا تقومُ على قومٍ فضَلاءَ، وأنَّهم في صبْرِهم على دِينِهم كالقابضِ على الجَمْرِ، وقد ذَكَرَ ◙ فَضْلَهُم في أحاديثَ جَمَّةٍ.