التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض

          ░8▒ بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)
          ذَكَرَ فيه أحاديثَ:
          7076- أحدُها: حديثُ شَقِيقٍ: قَالَ عَبْدُ اللهِ ☺: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ).
          7077- 7078- 7079- 7080- ثانيها: حديثُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرِيرٍ وَأَبِي بَكْرةَ مرفوعًا بِمَتْنِ الباب، لكنَّ لَفْظَ ابنِ عَبَّاسٍ: (لَا تَرْتَدُّوا) بَدَلَ: (لَا تَرْجِعُوا) قَالَ جَرِيرٌ: قَالَ لِي رَسُولُ الله صلعم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (اسْتَنْصِتْ النَّاسَ).
          ثمَّ قال: وقال: وحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ سِيْرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَعن رَجُلٍ آخَرَ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أنَّهُ صلعم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: (أَلَا تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟). الحديث، وقد سَلَفَ [خ¦67] وفيه: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) الحديث. وفيه: (فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ) فَكَانَ كَذَلِكَ، قَالَ: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ). فلمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَة. قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ. فَقَالُوا: هَذَا أبو بَكْرٍةَ يَرَاكَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ.
          الشَّرح: الرَّجُلُ الآخرُ هو حُمَيدُ بن عبدِ الرَّحمن الحِمْيَريُّ البَصْريُّ، سمَّاه أبو عامِرٍ عن قرَّةَ عن ابنِ سِيْرِينَ، ورواه مُسلمٌ عن أحمدَ بن خِرَاشٍ ومُحَمَّدَ بن عَمْرِو بن جَبَلَة عن أبي عامِرٍ. وحُمَيد بن عبد الرَّحمن هذا مِن أفراد مسلمٍ.
          وأبو بَكْرةَ اسمُه نُفَيعٌ أخو نافعٍ وزيادٍ، أُمُّهم سُميَّةُ مولاةُ الحارث بن كَلَدَةَ، وقيل: أبوه مَسْرُوحٌ، وإنَّ الحارثَ استلْحَقَهُ، وكان تَدَلَّى إلى رسولِ اللهِ يومَ الطَّائفِ بِبَكْرَةٍ فقيل له أبو بَكْرةَ، فأعتقَهُ رسولُ الله صلعم، والعُتَقاءُ مِن ثَقِيفٍ والطُّلَقاءُ مِن قُرَيشٍ.
          وفي سندِ حديثِ ابن عُمَرَ ☻ واقدٌ عن أبيه عن ابن عُمَرَ، وهو واقدُ بن مُحَمَّدِ بن زَيْدِ بن عبدِ الله بن عُمَرَ بنِ الخطَّاب، اتَّفقا عليه وانفردَ مسلمٌ بواقدِ بنِ عَمْرو بن سَعْدِ بن مُعَاذِ بن النُّعمان الأَشْهَليِّ لا ثالث لهما.
          وشيخُ البُخَارِيِّ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ ☻ مُحَمَّد بن إِشْكَابَ، وهو أبو جَعْفَرٍ مُحَمَّد بن الحسين بن إبراهيمَ بن الحُرِّ بن زَعْلَان المَعَافِريُّ النَّسَائِيُّ الأصلِ البَغْدَادِيُّ، / أخو أبي الحَسَنِ عليٍّ الأكبرِ، وإِشْكَابُ لَقَبٌ لأبيهِما الحسينِ، رَوَى عن مُحَمَّدٍ: البُخَارِيُّ وأبو داودَ والنَّسائيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إحدى وثمانينَ ومِئةٍ وماتَ سنةَ إحدى وستِّين ومئتين. وَرَوَى عن أخيه عليٍّ الكبيرِ أبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه، وقال النَّسائيُّ: ثقةٌ ومات في شوَّالٍ سنة إحدى وستِّين ومئتين، ومات في هذِه السَّنَةِ مُسلمُ بن الحجَّاجٍ في رَجَبٍ منها، ومات البُخَارِيُّ قبلَهم ليلةَ السَّبتِ يومَ الفِطْرِ منه سنةَ سِتٍّ وخمسين.
          فَصْلٌ: هذا البابُ في معنى الَّذي قَبْلَه، فيه النَّهي عن قتْلِ المؤمنين بعضِهم بعضًا، وتفريقِ كلمتِهم وتشتيتِ شملِهم، وليس معنى قولِه: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا) النَّهيُ عن ضِدِّ الإيمان، وإنَّما المرادُ كُفْرُ حقِّ المسلمِ على المسلمِ الَّذي أُمِرَ به مِن التَّناصُرِ والتَّعاضُدِ، والكُفْرُ في لسانِ العربِ التَّغطيةُ، وكذلك قوله: (قِتَالُهُ كُفْرٌ) يعني بحقِّه وتَرْكُ موالاتِه ونَصْرِه؛ للإجماعِ على أنَّ المعاصي لا تُكفِّرُ بارتكابِها، وقيل: المعنى لا يكفِّرْ بعضُكم بعضًا فتستحِلُّوا أن تُقاتِلوا ويَضرِبَ بعضُكم رقابَ بعضٍ، وقيل: إنَّه أراد بالحديثِ أهلَ الرِّدَّةِ، حكاهما الخطَّابيُّ. قال موسى بن هَارُونَ: هؤلاء أهلُ الرِّدَّة قَتَلَهم أبو بَكْرٍ ☺. وقد سَلَفَ في بابِ الخطبة في أيَّامِ مِنى مِن كتاب الحجِّ بزيادةٍ في معنى الحديث، فراجِعْهُ.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: وابنُ الحَضْرَميِّ رجلٌ امتنَعَ مِن الطَّاعةِ فأخرَجَ إليه جاريَةُ بن قُدَامَةَ جيشًا فظَفِرَ به في ناحيةٍ مِن العراق، وكان أبو بَكْرةَ يُسكُنُها، فأمرَ جَاريةُ بِصَلْبِهِ فصُلِبَ ثمَّ أُلقي النَّارُ إلى الجِذْعِ الَّذي صُلِبَ فيه بعدَ أيَّامٍ، ثمَّ أمرَ جَارِيةُ مِن حَشَمِه أن يُشرِفُوا على أبي بَكْرةَ لِيختبِرُوا إنْ كان يُحارِبُ فيعلَمَ أنَّه على غيرِ طاعةٍ أو يَستسلمُ فيعرفَ أنَّه على طاعةٍ، فقال له حَشَمُهُ: هذا أبو بَكْرةَ يراك وما صنعْتَ في ابنِ الحَضْرَميِّ وما أنكَرَ عليك بكلامٍ ولا بِسِلاحٍ، فلمَّا سَمِعَ أبو بَكْرةَ ذلك وهو في عِلِّيَّةٍ له قال: لو دَخَلُوا عَلَيَّ داري ما بَهَشْتُ بِقَصَبةٍ، فكيف أُقاتلُهم بِسِلاحٍ؟! لأنِّي لا أرى الفِتنةَ في الإسلام ولا التَّحرُّك فيها مع إحدى الطَّائفتَين.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أرسلَ مُعَاويَةُ عبدَ الله بنَ الحَضْرَميِّ إلى البصرةِ لِيأخذَها له مِن زيادٍ وكان أميرًا بها لِعَلِيٍّ، فكتب زِيادٌ إلى عليٍّ ☺ فأرسلَ إليه أَعْيَنَ بن ضُبَيعَةَ المُجَاشِعِيَّ فقُتل غِيلةً، فَبَعَثَ عليٌّ بعده جاريَةَ بنَ قُدَامَة فأَحْرَقَ على ابنِ الحَضْرَميِّ الدَّارَ الَّتي يسكُنُها وكان ينزِلُ في بني تَيْمٍ في دارِ ابن شِبْلٍ.
          فَصْلٌ: معنى: (مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ) ما مدَدْتُ يَدَيَّ إليها ولا تناولتُها لِأُدافِعَ بها، وعِبارةُ صاحبِ «الواعي»: يريدُ ما بادَرْتُ ولا حَنَنْتُ، وقيل: معناه ما قاتلتُ، قاله عِيَاضٌ. وهو بموحَّدةٍ ثمَّ شينٍ معجَمةٍ، وقال الطَّبَرِيُّ: معناه ما تناولتُهم ولا مددتُ يَدَيَّ إليهم بسوءٍ، يُقال للإنسان إذا نظرَ إلى الشَّيءِ فأعجبَهُ واشتهاه وتناوَلَه وأسرعَ إليه: بهَشَ إلى كذا، سألَ رَجُلٌ ابنَ عبَّاسٍ عن حيَّةٍ قَتَلَها، فقال: هل بَهَشَتْ إليك؟ أي أقبلتْ أو أسرعتْ إليك، ويُقال للرَّجُلِ إذا أرادَ معروفَ الرَّجُلِ أو أرادَ مكروهَهُ وتعرَّض لِخَيْرِه أو شرِّه: بَهَشَ فلانٌ إلى كذا وكذا، وفي كتاب «الأفعال»: بَهَشْتُ إلى فلانٍ خَفَفْتُ إليه، ورجلٌ بَهِش وبَاهِشٌ، وفي «الموعب»: بَهَش بِيَدِهِ بَهْشًا مِثَالُ ذَبَحَ تَنَاوَلَ الشَّيءَ فنالَتْهُ يَدُهُ أو قَصُرَتْ عنه، وبَهَشَ القومُ بعضُهم إلى بعضٍ، وهو مِن أدنى القتال. وقال ابنُ التِّين: أي ما قمتُ إليه، قال الجَوْهَرِيُّ: بَهَش يَبْهَشُ بَهْشًا إذا ارتاحَ له وخفَّ إليه. وهو بفتْحِ الهاء، قال ابنُ التِّين: ورُوِّيناه بكسْرِها، قال: وقيل معناه ما رميتُ بِقَصَبَةٍ، وقيل: ما تَرَكْتُ، وقال بعضُهم: البَهْشُ المسارعةُ إلى أخْذِ الشَّيءِ. قال ابنُ حَبْنَاءَ:
سَبَقْتَ الرِّجَالَ البَاهِشينَ إِلَى العُلا                     كَسَبْقِ الجوادِ اصطادَ قبل الطَّواردِ
          وهذا البيتُ عزاهُ الطَّبَرِيُّ للنَّابغةِ، وقال الأَزْهَرِيُّ: هو للمُغِيرة بن حَبْنَاءَ، وليسَ في ديوانِ المُغِيرةِ بن حَبْناءَ فكأنَّ الصَّوابَ ما قاله الطَّبَرِيُّ، ولفظُه عندَه: إلى النَّدَى، بَدَلَ: العلا، فِعَالًا ومَجْدًا والفِعَالُ سِبَاقُ.
          وقولُه: (يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) مَن جَزَمَ الباءَ مِن (يَضْرِبُ) أَوَّلَهُ على الكُفْرِ الحقيقيِّ الَّذي فيه ضَرْبُ الأعناقِ، ومَن رَفَعَها فكأنَّه أرادَ الحالَ أو الاستئناف فلا يكونُ مُتَعَلِّقًا بما قَبْلَهُ، وقد أسلفْنا حكايةَ قولينِ في قولِه: (كُفَّارًا) هل هو مَن لُبْسِ السِّلاحِ يُقال: كَفَر فوق دِرْعِهِ إذا لَبِس فوقَها ثوبًا آخر، أو يكفِّرُ النَّاسَ فيكفُرَ كَفِعْلِ الخوارج كما قال ◙: ((مَن قال لأخيه يا كافِرُ فقد باءَ بها أحدُهما)) وقال الدَّاوُدِيُّ: لا تَسْتَحِلُّوا مِن المؤمنين ما تستحلُّوا مِن الكُفَّار فتكونوا كفَّارًا، ولا تَفعلوا بهم ما لا يَحِلُّ وأنتم ترونَه حَرَامًا، فذلك كفرُ نِعمةٍ وقريبٌ مِن الإثمِ في الكُفْر.
          فَصْلٌ: قولُه: (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟) كان بِمِنى وكان هذا في خُطبتِه كالوَدَاعِ فسُمِّيت حَجَّةَ الوَدَاع لذلك.
          وقولُه: (كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ...) إلى آخرِه يعني حُرمَةَ الظُّلم لأنَّ الظُّلمَ في الحَرَمِ وإثمُه أعظمُ مِن إِثْمِ الظُّلْمِ في غيرِه.
          وقولُه: (وَأَبْشَارَكُمْ) هو جمع بَشَر، وهو ظاهرُ جِلْدِ الإنسان، وأمَّا البَشَرُ الَّذي هو الإنسانُ فلا يُثَّنى ولا يُجْمَع؛ قال القزَّاز: وأجاز قومٌ تثنيتَه فقط؛ لقولِه تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبِشْريْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون:47].
          فَصْلٌ: قولُه: (فلمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الحَضْرَمِيِّ) بخطِّ الدِّمْيَاطِيِّ: الوجهُ أُحْرِقَ وأَحْرَقَه.