التوضيح لشرح الجامع البخاري

بابُ التعوذ من الفتن

          ░15▒ بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ
          7089- 7090- 7091- ذَكَرَ فيه حديثَ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ ☺ قَالَ: سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلعم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صلعم ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ) فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ رَأْسُهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ. الحديث. قَالَ قَتَادَةُ: يُذْكَرُ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
          وقد سَلَفَ مختصَرًا في تفسيرِ هذه الآية مِن حديثِ شُعْبَةَ عن مُوسَى بنِ أنسٍ عن أنسٍ ☺ [خ¦4621].
          قَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ لِي عَبَّاسٌ النَّرْسِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أنَّ النَّبِيِّ صلعم بِهَذَا، قَالَ: (وكُلُّ رَجُلٍ لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي) وَقَالَ: (عَائِذًا بِاللهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ).
          أراد بهذا تصريحَ سماعِ قَتَادَةَ مِن أنَسٍ، وهذا ممَّا أخذه عنه النَّرْسِيُّ مذاكرةً.
          ثمَّ قَالَ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيد بن زُرَيعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ومُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلعم بِهَذَا، وَقَالَ: عَائِذًا باللهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ.
          والقولُ في هذا كالقولِ في الَّذي قَبْلَهٌ. وَرَوَى الإسْمَاعيليُّ حديثَ سعيدٍ ومُعْتَمِرٍ هذا في «صحيحه» عن موسى / حدَّثَنَا أبو بَكْرٍ الصَّغانيُّ حدَّثنا رَوْحُ بن عُبَادةَ حدَّثنا سعيدٌ، وحدَّثنا إبراهيمُ بنُ هاشمٍ والحَسَنُ بن سُفْيَانَ حدَّثنا عاصمُ بن النَّضْرِ حدَّثنا المُعْتَمِرُ، وأخبَرَنا ابنُ ناجيةَ حدَّثَنا أبو الأشعثِ حدَّثَنا المُعْتَمِرُ عن أبيه، قالا: حدَّثنا قَتَادَةُ، فَذَكَرَهُ وفيه: واسمُ الرَّجُلِ خَارِجَةُ. قلتُ: غريبٌ، فإنَّما هو عبدُ الله كما أسلفْناه هناك، وقيل: قيسٌ أخوه.
          وقد أسلفْنا أنَّ البُخَارِيَّ صرَّح في روايتِه بأنَّه عبدُ الله في الاعتصامِ في باب ما يُكره مِن كثرةِ السُّؤال [خ¦7294] كما ستعلمُهُ، ورُوِيَ أنَّ أُمَّه قالت له: يا بُنيَّ، واللهِ ما رأيتُ ابنًا أعقَّ منكَ، أنْ تكونَ أُمُّكَ قارفتْ بعضَ ما تُقَارِفُ نساءُ الجاهليَّةِ فَتَفْضَحَها على أَعْيُنِ النَّاس. فقال: اللهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُ به.
          فَصْلٌ: قولُه: (حَتَّى أَحْفَوْهُ) هو بهمزةٍ مفتوحةٍ ثمَّ حاءٍ مهمَلةٍ ساكنةٍ ثمَّ فاءٍ، أي أَلْحَفُوا وألحُّوا، ومنه {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [مُحَمَّد:37] أي تبالِغُوا في مسألتِكم. قال صاحبُ «الأفعال»: أَحْفَى الرَّجُلُ في السُّؤالِ أَلَحَّ. وفي التَّنزيلِ: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} أي يُلِحُّ عليكم فيما يوجبُه في أموالِكُم، ولَمَّا ألحُّوا عليه في المسألةِ كَرِهَ مسائِلَهم وعزَّ على المسلمين ما رأَوْا مِن الإلحاح عليه والتعنُّتِ له وتوقُّعوا عقوبةَ اللهِ أنْ تَحِلَّ بهم ولذلك بَكَوا، فَمَثَّل اللهُ له الجنَّةَ والنَّارَ، وأراه كلَّ ما يُسألُ عنه في ذلك الوقتِ فقال: (لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ) وقال للرَّجُلِ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ).
          فَصْلٌ: وفي هذا الحديثِ فَضْلُ عُمَرَ ☺ ومكانُه مِن الحمايةِ عن الدِّين والذبِّ عن رسولِ الله صلعم إذْ قالَ: (رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّد نَبِيًّا) ومنع مِن تَعَنُّتِهِ والإلحاحِ عليه؛ لأنَّ الله تعالى قد أَمَرَ بتعزيرِه وتوقيرِه وألَّا يُرفَعَ الصَّوتُ فوق صوتِهِ، واستعاذ باللهِ مِن شرِّ الفِتَنِ، وكذلك استعاذَ رسولُه صلعم مِن شرِّ الفِتَنِ، واستعاذَ مِن فِتنةِ المحيا والممات وإنْ كان قد أعاذَهُ اللهُ مِن كلِّ فتنةٍ وعَصَمَهُ مِن شرِّها لِيَسُنَّ ذلك لِأُمَّتِه فتستعيذَ ممَّا استعاذَ منه نبيُّها ◙، وهذا خِلافُ ما رُوِيَ عن بعضِ مَن قَصُر عِلْمُه أنَّه قال: اسألوا اللهَ الفِتنةَ فإنَّها حصادُ المنافقين، وزعم أنَّ ذلك مرويٌّ عن رسولِ الله صلعم، وهو حديثٌ لا يثبُتُ والصَّحيحُ خِلافُه مِن روايةِ أَنَسٍ وغيرِه عن رسولِ الله صلعم، كما نبَّه عليه ابنُ بطَّالٍ.
          فَصْلٌ: وقولُه: (وَكَانَ إِذَا لاَحَى) أي نازَعَ، وتَعوُّذُهُ مِن سُوء الفِتَنِ ولم يتعوَّذْ مِن جميعِها لِقولِه تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] وهو يشتمِلُ على شرِّ الدُّنيا والآخرةِ، نبَّه عليه الدَّاوُدِيُّ، وقال في الموضِعِ الآخِرِ: (مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ) كذا رُوِّينا بالرَّاء والتَّشديدِ، ذكرَه ابنُ التِّين.
          فَصْلٌ: وقولُه تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة:101] هو عن السُّؤالِ عن المسائلِ الَّتي لم تَنْزِلْ، وكان ◙ يَخاف أن يُسأل عن المسائل التي لم تَنْزِلْ خوفًا أن يَنْزِلَ ما فيه تَضْييعُ أُمَّتِهِ، يؤيِّدُهُ أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله، أفُرِضَ الحجُّ في كلِّ عامٍ؟ فقال: ((لو قلتُها لوَجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ وتركتموه لكفرتُم)).
          والذي قالَ قَتَادَةُ أنَّ الآية نزلتْ عندَ هذا الحديثِ ظاهرٌ، وقيل: إنَّما نُهِيَ عن ذلك لأنَّ الله سبحانه أحبَّ السَّتْرَ على عبادِهِ وأوجَبَ أَلَّا يقترحوا المسائلَ، وقال سَعِيدُ بن جُبَيرٍ: نزلتْ فيمن سألَ عن البَحيرةِ الآية، أَلَا ترى أنَّ بعدَهُ: {مَا جَعَلَ الله مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة:103].