التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلًا

          ░17▒ (بَابُ: إِذَا قَالَ رَبُّ الأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا، فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا) /
          2338- ذكر فيه حديثَ ابْن عمرَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا...) الحديثَ، إلى أن قال: (نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا، فَقَرُّوا بِهَا حتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ).
          وهذا التَّعليق أسنده في كتاب الخُمس [خ¦3152] مِنْ وجهٍ آخر؛ فقال: حَدَّثَنا أحمد بن المِقدام حَدَّثَنا الفضل بن سليمان، حَدَّثَنا موسى بن عُقبةَ، وأسنده مسلمٌ عن محمَّد بن رافعٍ وإسحاق بن رافعٍ كلاهما، عن عبد الرَّزَّاق به.
          إذا عرفت ذلك فقد تمسَّك بعضُ أهل الظَّاهر على جواز المساقاة إلى أجلٍ مجهولٍ بقوله: (نُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا)، والجمهور على المنع إلَّا إلى أجلٍ معلومٍ، وهذا الكلام جَرى جوابًا لمَّا طلبوه حتَّى إذا أراد إخراجهم منها، فقالوا: نعمل فيها ولكم النِّصف ونكفيكم مُؤْنة العمل، فلمَّا فُهمت المصلحةُ أجابهم إلى الإبقاء ووقفه عَلى مشيئته، وبعد ذلك عامَلَهم عَلى المساقاة، وقد دلَّ على ذلك قولُ ابن عمرَ: عامَلَ رَسُولُ الله _صلعم_ أهلَ خَيبر على شطرِ ما يخرج منها. فأفرد العقدَ بالذِّكر دون ذكر الصُّلح على الإبقاء، وزعم النَّوويُّ أنَّ المساقاة جازت لرسول الله _صلعم_ خاصَّةً في أوَّل الإسلام، يعني بغير أجلٍ معلومٍ، وقد أسلفنا مقالةَ أبي ثورٍ، وهو قول محمَّد بن الحسن، وفي «الموطَّأ»: ((أُقِرُّكم ما أَقرَّكم الله)).
          وقال ابنُ بطَّالٍ: اعتلَّ مَنْ دفعَ المساقاة بأنَّها كانت مِنْ رسول الله _صلعم_ إلى غير أجلٍ معلومٍ لهذا الحديث، وكلُّ مَنْ أجاز المساقاة فإنَّما أجازها إلى أجلٍ معلومٍ، إلَّا مَا ذكره ابن المُنْذِرِ عن بعضِهم أنَّه تأوَّل الحديثَ على جوازها بغير أجلٍ كما سلف، وأئمَّةُ الفتوى على خلافه، وأنَّها لا تجوز إلَّا بأجلٍ معلومٍ، قال مالكٌ: الأمر عندنا في النَّخل: أنَّها تُساقى السَّنتين والثَّلاثَ والأربعَ والأقلَّ والأكثرَ، وأجازها أصحابُ مالكٍ في عشر سنين فما دونها.
          وما سلف عن أبي ثورٍ ومحمَّد بن الحسن يشبِهُ قولَ ابنِ الماجِشُون فيمن اكترى دارًا مشاهَرةً أنَّه يلزمُه شهرٌ؛ لأنَّه _◙_ أقرَّ اليهود على أنَّ لهم النِّصف، ومقتضاه سنةٌ واحدةٌ حتَّى يبينَ أكثر منها، ولا حجَّة لِمَنْ دفع المساقاة في قوله: ((أُقرُّكم ما أَقرَّكم الله)) ولم يذكر أجلًا لأنَّه كان يرجو أن يحقِّق الله رغبتَه في إبعاد اليهود مِنْ جواره؛ لأنَّه امتُحن معهم في شأن القبلة، وَكان مرتقِبًا للوحي فيهم فقال لهم: ((أُقرُّكم مَا أقرَّكم الله)) مِنتظرًا للقضاء فيهم، فلمْ يوحَ إليه بشيءٍ في ذلك حتَّى حضرتْهُ الوفاة، فقال: ((لا يَبْقينَّ دينان بأرض العرب)).
          فقوله: ((أقرُّكم مَا أقرَّكم الله)) لا يوجب فسادَ عَقده ويوجب فسادَ عقد غيرِه بعدَه؛ لأنَّه كان ينزل عليه الوحيُ بتقرير الأحكام ونَسخِها، وكان بقاءُ حُكمِه موقوفًا على تقرير الله _تعالى_ له، وكان استثناؤه: مَا أقرَّهم الله، وزواله إذا نسخه مِنْ مقتضى العقد، فإذا شرط ذلك في عقده لم يوجب فسادَه، وليس كذلك صورته مِنْ غيره، لأنَّ الأحكام قد تبيَّنت وتقرَّرت.
          ومُساقاتُه _◙_ على نصف الثَّمر تقتضي عمومَ الثَّمر، ففيه حُجَّة لِمَنْ أجازها في الأصول كلِّها، وهو قول ابن أبي ليلى ومالكٍ والثَّوريِّ والأَوزاعيِّ وأبي يوسفَ ومحمَّدٍ، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ، وقال الشَّافِعِيُّ: لا تجوز إلَّا في النَّخل والكَرْم خاصَّة، وجوَّزها في القديمُ في سائر الأشجارِ المثمرة، نعم تجوز على الأصحِّ تبعًا لهما.
          فإنْ قلتَ: لمْ ينصَّ ابنُ عمر ولا غيرُه على مدَّةٍ معلومةٍ ممَّن رَوى هذِه القصَّةَ، فمِنْ أين لكم اشتراطُ الأجَل؟ قلتُ: الإجماعُ قد انعقد على منع الإجارةِ المجهولةِ، وإنَّما أجلى عمرُ مِنَ الحجاز أهلَ الكتاب؛ لأنَّه لم يكن لهم عهدٌ مِنْ رَسُول الله _صلعم_ على بقائهم في الحجاز دائمًا، بل كان ذلك موقوفًا عَلى مشيئته، ولمَّا عَهِدَ عند مَوته بإخراجهم مِنْ جزيرة العرب، وانتهتِ النَّوبةُ إلى عمر أخرجَهم إلى تيماءَ وأَريحاءَ بالشَّام، ولمَّا قال بعضهم: تلك كانت هزيلة منه رُدَّ عليه.
          تنبيهات: أحدها: احتجَّ أصحاب مالكٍ بقوله: (مَا شِئْنَا) أنَّه يجوز عقدُ الإجارة مشاهَرةً ومساناةً كما نقله ابن التِّيْنِ عنهم، قال: إلَّا أنَّه إذا دخل في السَّنَة في المساقاة لزمه تمامُ السَّنة، لِمَا في ترك ذلك بعد العمل مِن الضَّرر، ويجوز ذلك في الدُّور وغيرِها، ولكلِّ واحد مِنَ المُتكاريَين الخيارُ.
          وقال عبد الملك: يلزمُهما، وأُخذَ ما سمَّياه، فإنْ قالا: كلَّ شهرٍ، لزمه شهرٌ واحد، وكانا بالخيار فيما بعده، وإن سمَّيا كلَّ سَنَةٍ لزمهما سنةٌ وَكانا في الخيار فيما بعدَه، وابنُ القاسم يقول: هما بالخيار ولا يلزمهما شيءٌ مما عَقَدَا عليه، ومنع الشَّافِعِيُّ هذا العقدَ وَقال: لا يجوز إلَّا لأجلٍ معلومٍ، وقد سلف.
          ثانيها: قوله: (وَكَانَتِ الأَرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ) كذا في الأصول وعند ابن السَّكَن عن الفَرَبْريِّ أيضًا، وفي بعضها: <لِليَهُودِ وَلِرَسُولِهِ وَللمُسْلِمينَ>، وصحَّحه المهلَّب، وكذا رُوي عن الفَرَبْريِّ، ومعنى هذا: ظهر عليهم في الرَّجاء لأنَّه كان أَخَّرَ أعظمَها حِصْنًا، فاستولى عليهم رَجَاءً، ألا ترى أنَّهم لجؤوا إلى مصالحته لِمَا رأَوا مِنْ ظهوره، فتركوا الأرض وسلَّموها لحقن دِمائهم؟ فكان حُكْمُ ذلك الصُّلحِ وما انجلى عنه أهلُه بالرُّعب حُكمَ الفيء لم يَجْرِ فيه خُمسٌ، وإنَّما استخلص منه رَسُول الله _صلعم_ لنفسه، وكان باقيه لنوائبِ المسلمين وما يحتاجون إليه.
          ثالثها: قال الطَّحاويُّ: إقطاعُ أرض المدينة لا أدري كيف يصحُّ؟ لأنَّ أهلَ المدينة أسلموا راغبين في الدِّين، وكلُّ مَنْ أسلم كذلك أحرز دارَه وملكَه، إلَّا أنْ يكون على الوجه الَّذِي جاء فيه الأثرُ عن ابن عَبَّاسٍ أنَّ الأنْصار جعلتْ لرسول الله _صلعم_ مَا لم يَبلُغْه الماء مِنْ أرَضيهم.
          رابعها: معنى قوله: (لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ) أي على أكثرِها قبل أن تسألَه اليهودُ الصُّلحَ، فلمَّا صالحهم كانت الأرضُ لله ولرسوله، ولم يكن لليهود فيها شيءٌ لخروجهم عنها بالصُّلح، والدَّليل على ذلك أنَّ عمر إنَّما أعطاهم قيمةَ الثَّمرة لا قيمةَ الأصول، فصحَّ أنَّهم كانوا مُساقِين فيها بعد أن صُولحوا على أنفسهم، ثمَّ لمَّا قُسمت كانت لله ولرسوله الصُّلح وخُمس العنوة، وللمسلمين أربعةُ أخماس العنوة. /