التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أحيا أرضًا مواتًا

          ░15▒ (بَابُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا
          وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أَرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ، وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ وَقَالَ: فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ. وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ: عَنِ النَّبِيِّ صلعم).
          2335- ثمَّ ساق حديثَ عائشة: (عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُو أَحَقُّ، قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلاَفَتِهِ).
          الشَّرح: الْمَوَاتُ بفتح الميم والواو الأرضُ الَّتِي لم تُعمر قطُّ، ويُقال لها: مَوتَان بفتح الواو وسكونها.
          وأثر عمر أخرجه أبو عبيدٍ في «أمواله»، وحديثُ سالمٍ عن أبيه عنه كان يخطُب على المنبر فقال: ((يا أيُّها النَّاس مَنْ أحيا...)) إلى آخره، وطُرُقه يحيى بنُ آدمَ في «خَراجه»، وزاد في بعضها: ((ليس في يدِ مسلمٍ ولا معاهدٍ)).
          وحديثُ عمرٍو حديثٌ محفوظٌ كما قال الجَيَّانيُّ ثم ساقه، وقال ابن بَطَّالٍ: حسنُ السَّند.
          وحديث جابرٍ صحَّحه التِّرْمِذِيُّ، ورُوي عن هشامٍ عن أبيه عن رَسُول الله _صلعم_ مرسلًا، ورواه النَّسائِيُّ مسندًا بلفظ: ((مَنْ أحيا أرضًا ميتةً فله فيها أجرٌ، ومَا أكلَتِ العوافي منها فهو له صدقةٌ)) وصحَّحه ابن حِبَّان، وقال: طُلَّابُ الرِّزق يُسمَّوْن العوافيَ، قال: وفيه دليلٌ على أنَّ الذِّمِّيَّ إذا أحيا أرضًا لم تكن له، لأنَّ الصَّدقة لا تكون إلَّا للمسلم، ولأبي داود: ((مَنْ أحاط حائطًا على أرضٍ فهي له)).
          قلتُ: وفي الباب عن سعيدِ بن زيد بن عمرو بن نفيلٍ أخرجه التِّرْمِذِيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ، وسَمُرَة بن جُنْدُبٍ أخرجه أبو داود، وأبي سعيدٍ فيما نظنُّ أبو داود، وأسمرَ بن مُضَرِّسٍ عنده، وغير ذلك، وظاهرُها أنَّه لا يتوقَّف على إذن الإمام خلافًا لِمَنْ زعمه ولِمَنْ قال: إذا لم يعلم به الإمامُ حتَّى أحياها فهي له، كما ستعلمه.
          وحديثُ عائشة مِنْ أفرادِه، كذا فيه: (مَنْ أَعْمَرَ) بالألف، وصَوابه كما قال في «المطالع» وغيره: عَمَرَ ثلاثيٌّ، قال _تعالى_: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]، قال ابنُ بطَّالٍ: ويحتمل أن يكون اعتمر وسقطت التَّاء، وذكر صاحب «العين»: أَعمرتُ الأرضَ: وجدتُها عامرةً، وليس مرادًا هنا.
          وقد اختلف العلماء في إحياء المَوَات، فقال مالكٌ: مَنْ أحيا أرضًا ميتةً فيما قرُب مِنَ العُمران فلا بُدَّ في ذلك مِنْ إذن الإمام، وإن كان في فيافي المسلمين والصَّحاري، وحيث لا يتشاحُّ النَّاس فيه، فهي له بغير إذن الإمام، وقال أبو يوسف ومحمَّدٌ والشَّافِعِيُّ: مَنْ أحيا أرضًا ميتةً فهي له، ولا يحتاج إلى إذن الإمام مطلقًا قَرُبَ منه أو بَعُدَ. وقال أصبغُ وأشهبُ: إنْ أحيا فيما قرُب بغير إذنه أُمضيت ولم يُعنَّف، وقال مطرِّفٌ وابن الماجِشُون: الإمامُ بالخيار بين أربعة أوجهٍ؛ إنْ شاء أن يُقِرَّهُ له فَعَلَ، أو للمسلمين ويعطيَه قيمتَه منقوصًا، أو يأمره بقَلْعِهِ، أو يعطيَه غيرَه فيكون للأوَّل قيمتُه منقوصًا.
          والبعيدُ مَا كان خارجًا عمَّا يحتاجُه أهلُ ذلك العُمران مِنْ محتَطَبٍ ومَرعَى، ممَّا العادةُ أنَّ الرُّعاة يَبلُغُونه ثُمَّ يبيتوا في منازلهم، ويَحتطب المحتطِبُ ويعود إلى موضعه، وما كان مِنَ الإحياء في المحتَطب وللرِّعَاء فهو القريب مِنَ العُمران فيُمنع، وعند أبي يوسف: حدُّ الْمَوات مَا إذا وقف المرءُ في أدنى المِصر ثمَّ صاح لم يُسمع، وما سُمِعَ فيه الصَّوت فلا يكون إلَّا بإذن الإمام.
          وقال أبو حَنيفة: ليس لأحدٍ أن يحيِيَ مواتًا إلَّا بإذن الإمام فيما قَرُبَ وبَعُدَ، فإنْ أحيا بغير إذنه لم يملكه.
          حُجَّة الشَّافِعِيِّ ومَنْ وافقه إطلاقُ الحديثِ حيث جعلَه إلى مَنْ أحبَّ مِنْ غير أمرِ الإمام في ذلك، وقد دلَّت على ذلك شواهدُ مِنَ النَّظر منها الماءُ في البحر والنَّهر مَنْ أخذ منه شيئًا يملكه بنفس الأخذ، ولا يحتاج إلى إذن الإمام، ومنها: الصَّيد، لأنَّ الناس فيه سواءٌ الإمامُ وغيره، فكذا الأرضُ.
          حجَّة المتوقِّف على الإذن أنَّ معنى الحديث: مَنْ أحياها على شرائط الإحياء فهي له، وذَلِكَ تحظيرُها وإذنُ الإمام له فيها، يؤيِّده الحديث الآتي: ((لا حِمى إلَّا لله ولرسوله))، والحِمى: ما حُمي مِنَ الأرض، فدلَّ على أنَّ حُكم الأرَضينَ إلى الأئمَّة لا إلى غيرهم، وأنَّ حُكْمَ ذلك غيرُ حُكمِ الصَّيد والماء، والفرق بينهما أنَّ الإمام لا يملك مِنَ الأنهار شيئًا بخلاف الأرض، ولو احتاج الإمامُ إلى بيعِها في نائبةٍ للمسلمين جاز بيعُه لها، ولا يجوز ذلك في ماء نهرٍ ولا صيدِ برٍّ ولا بحرٍ، بل هو كآحاد النَّاس.
          حُجَّة مالكٍ: أنَّه _◙_ أقطعَ بلالَ بن الحارث المعادنَ القِبْليَّةَ ولم يُقطعه حقَّ مسلمٍ، وهذا فيما قَرُبَ، فوجب استعمالُ الحديثين جميعًا، فما وقع فيه التَّشاحُّ والتَّنافسُ لم يكن لأحدٍ عِمارتُه بغير إذن الإمام، وأمَّا ما تباعد عن العُمران ولم يُتشاحَّ فيه جاز أن يُعمَر بغير إذنه، / والإذنُ منه معناه الإقطاعُ، وقد أقطعَ عُمَرُ العقيقَ وهو قرب المدينة، قال سُحْنون: ومسافة يومٍ عن العَمارة بعيدٌ. فإنْ قاسَ المانعُ ذلك على الغنيمةِ بجامع الموات مِنْ مصالح المسلِم؛ لأنَّ الأرض مغلوبٌ عليها، فوجب ألَّا تُملَك إلَّا بإذن الإمام كالغنيمة، فيُقال: الموات في الفيافي مِنَ المباح كالصَّيد وطلب الرِّكاز والمعادن لا يَفتقر شيءٌ منها إلى إذن الإمام، وإنْ كانت في الأرض الَّتِي عليها يدُ الإمام، فكذا الموات.
          وإحياءُ الموات عند مالكٍ إجراءُ العيونِ وحفرُ الآبارِ والبُنيانُ والحرثُ وغرسُ الأشجار، وهو قول الشَّافِعِيِّ، قال ابن القاسم: ولا يَعرف مالكٌ التَّحجير إحياءً، والحُجَّة له ما روى الزُّهريُّ، عن سالمٍ، عن ابن عمر: كان النَّاس يتحجَّرون على عهدهم الَّتِي ليست لأحد، قال عمر: مَنْ أحيا أرضًا ميتةً فهي له، وهذا يدلُّ على أنَّ التَّحجير غيرُ الإحياء.
          قوله: (وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ) قال ابن حَبيبٍ: وبلغني عن ربيعة أنَّه قال: العِرق الظَّالم عِرقان: ظاهرٌ وباطنٌ، فالباطن ما احتفره الرَّجلُ مِنَ الآبار أو غَرَسَه، والظَّاهرُ مَا بنى في أرض غيره، وعنه العروقُ أربعةٌ: عرقان فوق الأرض، وهما: الغِراس والبناء، وعِرقان في جوفها: المياه والمعادن، وفي رواية ابن التِّيْنِ: الآبار والعين، وقال: هكذا وقع فيه في نفس الحديث، وهو يصحُّ على رواية مَنْ رواه منوَّنًا غير مضافٍ، ومَنْ لم يضفه ونوَّنَ عرقًا احتجَّ به في أنَّ غلَّات المغصوب لربِّه، وليس للغاصب منها شيءٌ، يريد: أنَّ الظَّالم هو الغاصب، ولا حقَّ له في المغصوب لا في غَلَّته ولَّا غيرها.
          قال ابن حَبيبٍ: والحكْم فيه أن يكون صاحبُ الأرض مخيَّرًا عَلى الظَّالم، إنْ شاء حبس ذلك في أرضه بقيمتِه مقلوعًا، وإنْ شاء نَزَعهُ مِنْ أرضه. وقال غيره: معنى الحديث يريد ليس له حقٌّ كحقِّ مَنْ غرس أو بنى بشُبهةٍ، فإذا غرس أو بنى بشُبهةٍ فله حقٌّ إن شاء ربُّ الأرض أن يدفعَ إليه قيمتَه قائمًا، وإن أبى قيل للَّذي بنى وغرس: ادْفع إليه قيمة أرضه بَراحًا فإنْ أَبَيَا كانا شريكين في الأرض والعِمارة: هذا بقيمة أرضِه، وهذا بقدر قيمة العِمارة.
          قال ابن حَبيبٍ: لا خيار للَّذي بنى وغرس إذا أبى ربُّ الأرض، ولكن يُشركُ فيما بينهما مَكانُه، هذا بقيمة أرضه براحًا والآخر بقيمة عمارته قائمةً. وقال ابن الماجِشُون: وتفسيرُ اشتراكهما أنْ تُقوَّم الأرضُ بَراحًا ثم تُقوَّمَ بعمارتها فما زادت قيمتُها بالعمارة على قيمتِها براحًا كان العامرُ شريكًا لربِّ الأرض فيها إنْ أحبَّا قَسَمَا أو حَبَسَا. قال ابن الجَهْمِ: فإذا دفع ربُّ الأرض قيمةَ العمارة وأخذ أرضَه كان له كِراؤها في ماضي السِّنين.
          وقال الشَّافِعِيُّ فيما نقله البَيْهَقيُّ في «المعرفة»: جِماعُ العرقِ الظَّالم كلُّ ما حُفِرَ أو غُرِسَ أو بُنِيَ ظلمًا في حقِّ امرئٍ بغير خروجه منه، وروى يحيى بن آدمَ في كتاب «الخراج» عن الثَّوريِّ وسُئل عن العِرق الظَّالم، فقال: هو المنتزي، وللنَّسائيِّ عن عروة بن الزُّبَير: هُو الرَّجل يعمر الأرضَ الخَرِبة وهي للنَّاس، وقد عجزوا عنها فتركوها حتَّى خرِبت.
          تنبيهات: أحدها: روى ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا جريرٌ، عن ليثٍ عن أبي بكر بن حفصٍ مرفوعًا: ((مَنْ أحيا أرضًا مِنَ المِصرِ على دعوةٍ فله رقبتُها إلى ما يصيب فيها مِنَ الأجر))، وعن الشَّعبيِّ رفعه: ((مَنْ ترك دابَّةً بمَهلَكَةٍ فهي للَّذي أحياها))، وقال الحسن إذا سُئل عَن ذلك: لِمَنْ أحياها.
          ثانيها: حكى ابن التِّيْنِ عن أصحابِ مالكٍ ثلاثةَ أقوالٍ في الإحياء: يجوز فيما بَعُدَ مِنَ العُمران، يجوز في الجميع، لا يجوز مطلقًا إلَّا بإذن الإمام.
          ثالثها: حديث معاذٍ المرفوع: ((إنَّما للمرء مَا طابت به نفسُ إمامِه)) لا يصحُّ كما بيَّنه البَيْهقيُّ، وبيَّنَ انقطاعه وجهالة أحدِ رواته، وأعلَّهُ ابن خُزَيمة أيضًا.
          رابعها: قال الشَّافِعِيُّ: أخبرنا عبد الرَّحمنِ بن الحسنِ الأَزْرَقِيُّ، عن أبيه، عن عَلْقمة بن نَضْلَةَ أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: ليس لأحدٍ _يعني مِنْ إحياء الموات_ إلَّا ما أحاطت عليه جدرانُه.
          خامسها: قد يَحتجُّ بالحديثِ مَنْ يرى إجازةَ إحياءِ الذِّمِّيِّ في دارِ الإسلامِ، واختُلف فيه عند المالكيَّة، ونصَّ إمامُنا على عدم جوازه، واختُلف أيضًا عندهم أنَّ الإذن واجبٌ أو مستحبٌّ؟ وفائدتُه: إذا بنى بغيرِ إذنه هل يهدمه الإمام إذا رأى ذلك أو يمضيه؟
          قال: مَنْ قال: يُحيي فيما بَعُدَ دون ما قَرُبَ مِنَ العُمران، قيل: حدُّه أنْ يقفَ الرَّجلُ في طرف العُمران ويصيحَ فلا يسمعه مَنْ يكون في تلك الأرض، وقيل: ذلك قدرُ سرْح مواشيهم في غدوِّها ورواحها، وهذا ممَّا لم يكن في الأرض نشزًا.
          وأمَّا ما دَرَس وكان مشترًى فهو لمالكه، واختُلف فيما دَثَرَ ممَّا أصلُه الإحياء، ولم يكن نشزًا.