التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا قال: اكفني مؤنة النخل أو غيره وتشركني في الثمر

          ░5▒ (بَابُ إِذَا قَالَ: اكْفِنِي مَؤُونَةَ النَّخْلِ أَو غَيْرِهِ، وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ)
          2325- ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيرَةَ، قَالَ: (قَالَتِ الأَنْصَارُ لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لاَ، فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمَؤُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).
          هذا الحديثُ مِنْ أفراده، وخرَّجه في الشُّروط أيضًا، وهذا القولُ كان مِنَ الأنصار حين قَدِمَ عليهم المهاجرون المدينةَ ومنحوهم المنائحَ، فلمَّا فُتحت خيبرُ أعادوا منائحَهُم عليهم، كما ذكره البُخارِيُّ في العاريَّة [خ¦2630] مِنْ رواية أنسٍ، قال: وكانت أمُّ سُليمٍ أعطت رَسُول الله _صلعم_ عِذاقًا، فأعطاهنَّ أمَّ أيمنَ، فلمَّا ردَّ المهاجرون مَا كان بأيديهم ردَّ رَسُولُ الله _صلعم_ إلى أمِّ سُليمٍ عِذاقَها، وأعطى أمَّ أيمن مكانَهنَّ مِنْ حائطِهِ. وكانت الأنصارُ أرادوا أن يُشْرِكَهم المهاجرون في أموالهم ونخيلهم، فأشركهم _◙_ في الثَّمرة على أن يَكْفوهم المُؤْنة.
          وظاهر الحديث يقتضي عملهم على النِّصف ممَّا تُخرِجُ الثَّمرة؛ لأنَّ الشَّركة إذا أُبهمت ولم يكن فيها حدٌّ معلومٌ كانت نصفَين، وهذِه هي المُساقاة، قال ابن التِّيْنِ: لمَّا بايع سيِّدَنا رَسُولَ الله _صلعم_ الأنْصارُ ليلةَ / العَقبة اشتَرط عليهم مواساةَ مَنْ هاجَر إليهم، فلمَّا قدِمَ المهاجرون قالت الأنصارُ: اقسِمْ بيننا وبينَ إخوانَنا ويَعملُ كلُّ واحدٍ سهمَه، وقال النَّبِيُّ _صلعم_: ((إنَّهم لا علمَ لهم بعَمَلِ النَّخل)) فقالوا: يكفونا المُؤْنة، قال: وهذا مِنْ قول المهاجرين، وقال بعضُهم: إنَّه مِنْ قولِ الأنصار، وإنَّ فيه حُجَّةً على جوازِ المُساقاة، وليس كذلك، لأنَّه يصحُّ أن يُحتجَّ به على جوازها وإن كان مِنْ قول المهاجرين؛ لأنَّهم ملكوا معَهم نصيبًا باشتراطه _◙_ ذلك كما مضى، وتطوُّعهِم بذلك ولم يرجِعوا عنه، فكأنَّهم جعلوا لهم نصيبًا مِنَ الثَّمرة فيما صار إليهم منهم على أن يَكفوهم المُؤْنة، فلمَّا جلا بني النَّضيرِ، وأراد قَسْمَ مَا سِوى الرِّبَاعِ مِنْ مالهم قال للأنصار: ((إن شئتم نقسِمُ على مَا كنتم عليه في أموالكم، وإن شئتم رجعتْ إليكُم أموالُكُم، وقسمتُ لهم دونكم))، فاختاروا أَخْذَ أموالِهم، وقَسم مَا سِوى الرِّباع مِنْ أموال بني النَّضِير على المهاجرين وثلاثةٍ مِنَ الأنصار كانت بهم حاجةٌ، وهمْ: أبو دُجانةَ، وسهلُ بن حُنَيْفٍ، والحارث بن الصِّمَّة.
          وقال ابن المُنَيِّرِ: أشار البُخارِيُّ في التَّرجمة إلى حُجَّة المساقاة، وليس في الحديث حقيقتُها؛ لأنَّ الرِّقاب كانت ملكًا للأنصار، وهم أيضًا العُمَّال عليها، فليس فيه إلَّا مجرَّدُ تمليكهم لإخوانهم نصفَ الثَّمر بلا عوضٍ، غير أنَّهم عَرضوا عليهم الملكَ ثمَّ القسمةَ، فنزلوا عَن الملكِ المتعلِّق بالثَّمرة، وكانوا ساقُوا نصيبَهم المعروضَ عليهم بجزءٍ مِنَ الثَّمرة، وَكان الجزءُ مبيَّنًا إمَّا بالنَّصِّ، أو العُرف، أو بإطلاق الشَّركة مُنَزَّلٌ على النِّصف، وهو مشهورُ مذهب مالكٍ، والجزءُ المنسوبُ إلى الأصل هنا هو الكُلُّ بالنِّسبة إلى النَّصيب المعروف، قال: ومذهبُنا أنَّ المساقاة على أنَّ كلَّ الثَّمرة للمالك جائزةٌ.
          وقال المهلَّب: إنَّما أراد الأنصارُ مشاركةَ المهاجرين بأنْ يقاسموهم أموالَهم، فكَرِه _◙_ أن يُخرج شيئًا مِنْ عَقارِهم، وعَلِمَ أنَّ الله سيفتحُ عليهم البلادَ حتَّى يستغنيَ جميعُهم، فأشركهم كما سلف، وهذِه هي المساقاة بعينها. قال غيره: فإن وُجد في بعضِ طُرق الحديث مقدارُ الشَّركة في الثَّمرة صِير إليه، وإلَّا فظاهرُ اللَّفظ النِّصفُ؛ لأنَّ الشَّركة إذا أُبهمت ولم يُذكر فيها جزءٌ معلومٌ حُملتْ على المساقاة، وعن مالكٍ في رَجلين اشترَيَا سِلعةً فأشركا فيها ثالثًا، ولمْ يُسمِّيا له جزءًا: أنَّ السِّلعةَ بينهم أثلاثًا، فهَذا يدُلُّ مِنْ قوله أنَّه لو كان المشرَك واحدًا كانت بينهما نِصفَين.
          واختَلف أهلُ العلم في الرَّجل يدفعُ المال قِراضًا على أنَّ للعامل شِرْكًا في الرِّبح، فقال الكُوفيُّون: له ذلك في أجر مثله، والرِّبح والوضيعة على ربِّ المال، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وقال ابن القاسم: يُرَدُّ في ذلك إلى قِراضِ مثلِه، وقال الحسن البصريُّ وابن سِيرِينَ: له النِّصف، وهو قول الأوزاعيِّ وبعضِ أصحاب مالكٍ.
          وحديث الباب يدلُّ على صحَّته؛ لأنَّ مَنْ رَدَّ القرض في ذلك إلى أجر مثله أو إلى قِراض مثلِه فَعِلَّتُهُ أنَّه فاسدٌ إذ لم يعلم مقدار الشَّركة في الرِّبح، ولو كان كما قالوا لكان مساقاةُ المهاجرين للأنصار فاسدةً حين لم يُسمُّوا لهم مقدار ما يعملون عليه، والقِراض عند أهل العلم أشبهُ شيءٍ بالمساقاة، ومُحالٌ أن تكون مساقاةُ المهاجرين للأنصار عن أمره _◙_ ورأيِهِ الموفَّقِ فاسدةً.
          فائدة: (النَّخِيلَ) جمع نخلٍ، ونخلٌ جمع نخلةٍ، ولا يجمع فَعْلٌ على فَعِيلٍ إلَّا في القليل مِنْ كلامهم نحو: عَبْدٍ وعَبِيدٍ، وكَلْبٍ وكَلِيبٍ.