التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل الزرع والحرث إذا أكل منه

          ░1▒ (بَابُ: فَضْلِ الزَّرْعِ وَالحَرْثِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ
          وَقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَو نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:63-65]). /
          2320- ذكر فيه حديثَ أنسٍ، فقال: (حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا أَبُو عَوَانَةَ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ، حَدَّثَنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَو يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَو إِنْسَانٌ أَو بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ. وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ: حَدَّثَنا أَبَانُ، حَدَّثَنا قَتَادَةُ، حَدَّثَنا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم).
          الشَّرح: كذا ذكره بلفظ: (وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ) وهو شيخه بلفظ التَّحديث، حَتَّى جعله بعضُهم معلَّقًا، وأباه أبو نُعيمٍ فقال: روى البخاريُّ هذا الحديث وأتى به لتصريح قَتادة فيه بسماعه مِنْ أنسٍ ليَسلم مِنْ تدليس قَتادة.
          وأخرجه أيضًا مسلمٌ عن عبد بن حُميدٍ، حَدَّثَنا مسلم بن إبراهيم، حَدَّثَنا أبان بن يزيدَ العطَّار، حَدَّثَنا قتادة عن أنسٍ، وعنده أيضًا: عن جابرٍ، عن أمِّ مبشرٍ أنَّه _◙_ دخل نخلًا لها، فسأل: ((مَنْ غرس هذا النَّخل، أمسلمٌ أم كافرٌ؟)) قالوا: مسلمٌ... الحديث، وفي روايةٍ: دخل على أمِّ مَعبدٍ أو أمِّ مبشر الأنصاريَّة، وفي روايةٍ له: عن جابرٍ عن امرأةِ زيد بن حارثة، بدل: أمِّ مبشرٍ. وفي بعض نسخ مسلمٍ: أمُّ بِشْر، وهو مِنْ أفراده. قلتُ: ورأيت مَنْ قال مِنْ شيوخنا: إنَّ أمَّ معبدٍ هي أمُّ مبشرٍ وأمُّ بشيرٍ، واسمها: خُليدة، قال ابن عبد البرِّ: هي بنت البراء بن معرورٍ الأنصاريَّة.
          وفي الباب عن أبي أيُّوب ذكره الطَّبرانيُّ، وأبي سعيدٍ، وخصَّ المسلم بالذِّكر لأنَّه ينوي عند الغرس غالبًا أن يتقوَّى به على العبادة؛ ولأنَّه الَّذي يُحصِّل الثَّواب بخلاف الكافر، وغايتُه أن يخفَّف العذابُ عنه فيمَنْ خصَّ به، وقد يُطعَم في الدُّنيا ويُعطَى بذلك، ويعني بالصَّدقة ثوابَها مضاعفًا، كما قال _تعالى_: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ}الآية[البقرة:261].
          وفيه أنَّ الغراس واتَّخاذ الضِّياع مباحٌ وغيرُ قادحٍ في الزُّهد، وقد فعله كثيرٌ مِن الصَّحابة وغيرهم، وذهب قومٌ مِنَ المتزهِّدة إلى أنَّ ذلك مكروهٌ وقادحٌ في الزُّهد، ولعلَّهم تمسَّكوا في ذلك بحديث التِّرْمِذِيِّ محسَّنًا، وابن حِبَّان مِنْ حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((لا تتَّخذوا الضَّيعة فتركنوا إلى الدُّنيا))، ويجاب بأنَّ النَّهي محمولٌ على الاستكثار مِنَ الضِّياع، والانصرافِ إليها بالقلب الَّذي يُفضي بصاحبه إلى الرُّكون في الدُّنيا، وأمَّا إذا اتَّخذها غيرَ مستكثرٍ وقلَّل منها، وكانت له كَفافًا وعفافًا فهي مباحةٌ غيرُ قادحةٍ في الزُّهد، وسبيلُها كسبيل المال الَّذي استثناه الشَّارع بقوله: ((إلَّا مَنْ أخذه بحقِّه ووضعه في حقِّه))، فإن نوى بما غرس معونةَ المسلمين ورجاء ثواب ما يؤكل وشبهه، فذلك مِنْ أفضل الأعمال وأكمل الأحوال، ولا يَبعُدُ أن يقال: إنَّ أجر ذلك يعود عليه دائمًا أبدًا وإن مات وانتقلت إلى غيره، ما دام ذلك الغرسُ أو الضَّيعة وما تولَّد منهما إلى يوم القيامة؛ لما في مسلمٍ: ((إلَّا كان له صدقةً إلى يوم القيامة))، ولو كان كما زعم أولئك لَمَا كان لِمَنْ يزرع زرعًا وأكل منه إنسانٌ أو بهيمةٌ أجرٌ، لأنَّه لا يؤجر أحدٌ على ما لا يجوز فعلُه.
          وقد أسلفنا اختلاف النَّاس في أفضل المكاسب أهو التِّجارة أو الصَّنعة باليد أو الزِّراعة، فراجعه، ويرجَّحُ الثَّالثُ بأنَّ الشَّخص يثاب على ما سُرق مِنْ ماله أو أتلفتْهُ دابَّةٌ أو طائرٌ ونحوهما؛ لما في «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديث جابرٍ: ((وما سُرِق منه له صدقةٌ، وما أكله السَّبُع فهو له صدقةٌ، وما أكلت الطَّير فهو له صدقةٌ، ولا يرزؤُهُ أحدٌ إلَّا كان له صدقةٌ))، وفي روايةٍ له: ((فيأكل منه إنسانٌ ولا دابَّةٌ ولا شيءٌ إلَّا كان له صدقةٌ يوم القيامة))، قال المهلَّب: وهذا يدلُّ على أنَّ الصَّدقة على جميع الحيوان، وكلِّ ذي كبدٍ رطبةٍ فيه أجرٌ، لكنَّ المشركين لا يؤتمر بإعطائهم مِن الزَّكاة الواجبة لقوله _◙_: ((فتردُّ على فقرائهم)).
          وفيه مِنَ الفقه: أنَّ مَنْ زرع في أرضِ غيرِه أنَّ الزَّرع للزَّارع، ولربِّ الأرض عليه كراءُ أرضه لحديث الباب، فجعل الصَّدقة للزَّارع والثَّوابَ له خاصَّةً دون ربِّ الأرض، فعلِمنا أنَّه ليس لربِّ الأرض حقٌّ في الزَّرع الَّذي أخرجتْه الأرض. وفيه الحضُّ على عمارة الأرض ليعيِّشَ نفسَه أو مَنْ يأتي بعدَه ممَّنْ يؤجر فيه، وذَلِكَ يدلُّ على جواز اتَّخاذ الضِّياع، وأنَّ الله _تعالى_ أباح ذلك لعباده المؤمنين لأقواتهم وأقواتِ أهليهم طلبَ الغنى بها عن النَّاس، وفسادِ قول مَنْ أنكر ذلك، ولو كان كما زعموا ما كان لِمَنْ زرع زرعًا وأكل منه إنسانٌ أو بهيمةٌ أجرٌ؛ لأنَّه لا يؤجر أحدٌ فيما لا يجوز فعله، وقد سلف بيان ذلك بأوضح في باب: نفقة نسائه صلعم.