التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المزارعة بالشطر ونحوه

          ░8▒ (بَابُ: الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ)
          وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَالقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيْرِيْنَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحمنِ بْنُ الأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحمنِ بْنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ، وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاؤوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا.
          وَقَالَ الحَسَنُ: (لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ لِأَحَدِهِمَا، فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا، فَمَا خَرَجَ فَهُو بَيْنَهُمَا، وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ، وَقَالَ الحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى القُطْنُ عَلَى النِّصْفِ.
          وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَابْنُ سِيْرِيْنَ وَعَطَاءٌ وَالحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الثَّوْرَ بِالثُّلُثِ وِالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ تُكْرَى المَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى).
          2328- ثمَّ ساق حديثَ ابن عمر: (أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَو ثَمَرٍ، فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِئَةَ وَسْقٍ، ثَمَانُونَ وَسْقًا تَمْرًا، وَعِشْرُونَ وَسْقًا شَعِيرًا، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ المَاءِ وَالأَرْضِ، أَو يُمْضِيَ لَهُنَّ قِسْمَتَهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الوَسْقَ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتِ الأَرْضَ).
          الشَّرح: أمَّا أثرُ قيسٍ عن أبي جعفرٍ فأخرجه عبد الرَّزَّاق عن الثَّوريِّ، أخبرني قيس بن مسلمٍ، عن أبي جعفرٍ محمَّد بن عليٍّ بن الحسين بن عليٍّ قال: ما بالمدينة أهلُ بيتِ هجرةٍ إلَّا وهم يُعطُون أرضَهم بالثُّلث والرُّبع. وأخبرنا وَكِيعٌ، أخبرنا عمرو بن علي بن مَوْهَبٍ، سمعت أبا جعفرٍ محمَّد بن عليٍّ يقول: آلُ أبي بكرٍ، وآلُ عمر، وآلُ عليٍّ يدفعون أرضَهم بالثُّلث والرُّبع.
          وقال ابن أبي شَيبة: حَدَّثَنا ابنُ أبي زائدة، / عن حجَّاجٍ عن أبي جعفرٍ محمَّد بن عليٍّ، قال: عاملَ رَسُولُ الله _صلعم_ بالشَّطر، ثمَّ أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ.
          فائدة: قال الشَّيخ أبو الحسن: إنَّما ذَكر البُخارِيُّ هذا ليُعْلم أنَّه لم يصحَّ في المزارعة على الجزءِ حديثٌ مسنَدٌ، وقال متعجِّبًا: كيف يروي قيسٌ هذا عن أبي جعفرٍ، وقيسٌ هذا كوفيٌّ، وأبو جعفرٍ مدنيٌّ، ولم يروِ عن قيسٍ مالكٌ ولا غيرُه مِنَ المدنيِّين. قلتُ: فعلى هذا يكون قيسٌ هذا أبا عمرٍو الجَدَلِيَّ العَدْوانيَّ، وقد رُوي عن جماعةٍ مِنَ الصَّحابة منْعُ ذلك إلَّا أنَّ سند قيسٍ عَلى شرطِه، ومالكٌ والشَّافِعِيُّ يمنعون كِراء الأرض بالجُزء، وأجازه أبو حنيفة، وأكثرُ الصَّحابة والتَّابعين على جوازه، قال الخطَّابيُّ: والأصلُ في إجازة ذلك قصَّة خيبرَ، ومنع أبو حنيفة كِراء الأرض بمنافعَ أخرى، ومنع طاوسٌ كراءَها جُملةً، وأجازه ربيعةُ بالعين خاصَّةً.
          وقوله: (وَزَارَعَ عَلِيٌّ...) إلى آخره، قال الطَّحاويُّ: حَدَّثَنا فهدٌ، حَدَّثَنا أبو نُعيمٍ، حَدَّثَنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، سمعتُ أبي يذكر عن موسى بن طلحة، قال: أَقطعَ عثمانُ نفرًا مِنْ أصحاب رَسُول الله _صلعم_ الزُّبيرَ وابْنَ مسعودٍ وسعدَ بن مالكٍ وأسامة، فكان جاري منهم سعدَ بن مالكٍ وابنَ مسعودٍ فزرعا أرضَهما بالثُّلث والرُّبع. وحدَّثنا فهدٌ، حَدَّثَنا محمَّد بن سعدٍ، أخبرنا شُريكٌ عن إبراهيم بن مهاجرٍ، سألت موسى بن طَلحة عن المزارَعة، فقال: أقطعَ عثمانُ عبدَ الله أرضًا، وأقطع سعدًا أرضًا، وأقطع حسَّانًا أرضًا، وأقطع صهيبًا، فكلٌّ جاري؛ فكانا يزارعان بالثُّلث والرُّبع. وقد سلف ذكر آل أبي بكرٍ وعمر وعليٍّ.
          وأثرُ عبد الرَّحمنِ بن الأسود أخرجه ابن أبي شَيْبة: حَدَّثَنا أبو نُعيمٍ، عن بكرِ بن عامرٍ، عن عبد الرَّحمنِ بن الأسود قال: كنتُ أُزارِعُ بالثُّلث والرُّبع وأحملُه إلى علقمة والأسود، فلو رأيَا به بأسًا لَنَهَياني عنه.
          وقوله: (وَعَامَلَ عُمَرُ...) إلى آخره، رواه الطَّحاويُّ مِنْ طريقٍ منقطعةٍ عن أبي بَكْرةَ، حَدَّثَنا أبو عمرَ الضَّرير، أخبرنا حمَّادُ بن سَلَمة، أنَّ يحيى بن سعيدٍ أخبرهم، عن إسماعيلَ بن أبي حَكيمٍ، عن عمرَ بن عبد العزيز أنَّ عمر بن الخطَّاب بعث يَعلى بن مُنْيَة إلى اليمن، فأمره أن يعطيَهم الأرضَ البيضاء على: إِنْ كان البقرُ والحديدُ والبذر مِنْ عمر فله الثُّلثان ولهم الثُّلث، وإنْ كان ذلك منهم فلهم الشَّطر وله الشَّطر، وأمره أن يعطيَهم النَّخل والكَرْم على أنَّ لهم الثُّلثين وله الثُّلث.
          وقوله: (وَقَالَ الحَسَنُ...) إلى آخره، لعلَّه يريد أنَّها أرضٌ لا خطبَ لها مِنَ الإجارة، فإنْ كان لها خطبٌ فتكون زيادةً مِنْ أحدهما، وذَلِكَ غير جائزٍ، نبَّه عليه ابن التِّيْنِ.
          وقول الحسن _ثانيًا_ في القُطن هو قول مالكٍ؛ ولذلك جاز أن يقول: فما جنيتَ فلك نصفُه، ومنع بعضُ المالكيَّة، ولذلك اختُلف إذا قال: ما جنيتَ اليومَ فلك نصفه.
          وأثرُ إبراهيم فمَنْ بعدَه لم يقل به مالكٌ، فإنْ ترك كِراء الأرضِ بالجُزء وكانت تَرمي البذرَ كان عليه كراءُ الأرض، والزَّرعُ له دون ربِّ الأرض، واختُلف هل يفوت بتقليب الأرض؛ فقال ابن القاسم: هو فوتٌ، وقال ابن سُحْنون: لا.
          وحديثُ ابن عمر أخرجه مسلمٌ وزاد مع عائشةَ حفصةَ أنَّها ممَّنِ اختارت الأرضَ، وروى يحيى بن آدمَ في «الخراج»: أو يضمن لهم الوُسوقَ كلَّ عامٍ، فاختلفْنَ، فكانت عائشة وحفصة ممَّنِ اختارَ الوُسوق. وفي روايةٍ له: فجعل عمرُ لأزواج النَّبِيِّ _صلعم_ منها _يعني خيبرَ_ نصيبًا، وقال: أيَّتُكُنَّ شاءت أخذتِ الضَّيعة، فهي لها ولعَقِبها. قال ابن التِّيْنِ: قيل: إنَّ الوُسقَ _بضمِّ الواو_ جمع وَسْقٍ مثل رَهْنٍ ورُهْنٍ، وقيل: كان عمر يعطيهنَّ اثني عشر ألفًا سوى هذِه الأوسق، وما يجري عليهنَّ سائر السَّنَة.
          واختلف العلماء في كراء الأرض بالشَّطر والثُّلث والرُّبع، فأجازه عليٌّ وابن مسعودٍ وسعدٌ والزُّبير وأسامة وابن عمر ومعاذ بن جبلٍ وخبَّابٌ، وهو قول سعيد بن المسيِّب وطاوسٍ وابن أبي ليلى، قال ابن المُنْذِرِ: ورُوِّينا عن أبي جعفرٍ قال: عامَلَ رَسُول الله _صلعم_ أهلَ خيبرَ بالشَّطر، ثمَّ أبو بكرٍ وعمر، ثمَّ عثمانُ، ثمَّ عليٌّ، ثمَّ أهله، هم إلى اليوم يعطون بالثُّلث والرُّبع. وهو قول الأوزاعيِّ والثَّوريِّ وأبي يوسف ومحمَّدٍ وأحمد، هؤلاء أجازوا المزارعة والمساقاة.
          وكرهتْ ذلك طائفةٌ، رُوي عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمرَ والنَّخَعِيِّ، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة واللَّيث والشَّافِعِيِّ وأبي ثورٍ، قالوا: لا تجوز المزارعة، وهو كِراء الأرض بجزءٍ منها، وتجوز عندهم المساقاة.
          ومنعهما _أعني المزارعة والمساقاة_ أبو حنيفة وزُفَرُ فقالا: لا يجوزان بوجهٍ مِنَ الوجوه، والمزارعةُ منسوخةٌ بالنَّهي عن كِراء الأرض بما يخرج منها، وهي إجارةٌ مجهولةٌ؛ لأنَّه قد لا تُخرج الأرضُ شيئًا، وادَّعوا نَسْخَ المساقاة بحديث المزابنة، ورَوى رافعٌ النَّهي عن المزارعة والمخابرة، ومثله: نهى عن كراء الأرض، وفي أفراد مسلمٍ عن ثابت بن الضَّحَّاك: أنه _◙_ نهى عن المزارعة وأَمر بالمؤاجرة، وقال: لا بأس بها، وعن جابرٍ مرفوعًا: ((مَنْ كان له أرضٌ فليَزْرَعْها أو يُزرِعْها أخاه، ولا يؤجِّرها)). وفي لفظٍ: ((مَنْ لم يَدَع المُخابرةَ فليُؤذَن بحربٍ مِنَ الله)).
          فذهب قومٌ إلى هذِه الآثار، وكرهوا إجارةَ الأرض بجزءٍ ممَّا يخرج منها، وهذِه الآثار _كما قال الطَّحاويُّ_ قد جاءت عَلى معانٍ مختلفةٍ، فحديثُ ثابتٍ لم يُبَيِّن أيُّ المزارعة إن كانت على جزءٍ معلوم، فهذا موضع الخلاف، وإنْ كانت على الثُّلث والرُّبع ونحوِهما ممَّا يخرج مِنَ الأرض فهو ممَّا اتَّفقوا على فسادِه، وليس فيه ما ينفي إرادة معنًى منهما دون الآخر، وأمَّا حديثُ جابرٍ فخَرَجَ على سببٍ، وهو أنَّه كان لهم فُضُولُ أَرَضِين، فكانوا يؤجِّرونها على النِّصف والثُّلث والرُّبع، فقال لهم _◙_ ذلك، فيجوز أن يكون النَّهيُ عن إجارة الأرض.
          وقد ذهب قومٌ إلى كراهة إجارتها / بالذَّهب والفضَّة: طاوسٌ، وكان لا يرى بأسًا بدفعها ببعض ما يخرج، فإنْ كان النَّهي وقع عن الكِراء أصلًا بشيءٍ ممَّا يخرج وبغيره، فهذا معنًى يخالفُه الفريقان، وقد يحتمل أن يكون النَّهي وقع لمعنًى غير ذلك، وهو ما كانوا يصنعونه في الإجارة بما سبق وبالماذِيَانات، وكأنَّ النَّهي مِنْ قِبَل ذلك جاء.
          وحديثُ رافعٍ جاء بألفاظٍ مختلفةٍ اضطرب مِنْ أجلها، وحديثُ ابن عمر هو مثلُ حديث ثابتٍ، وكذا مَنْ رواه نحو حديثِ جابرٍ، نحوَ حديثِ أبي رافعٍ لا لإجارة الأرض بجزءٍ ممَّا يخرج منها، وقد أنكر آخَرون عَلى رافعٍ ما روى، وأخبروا أنَّه لم يحفظ أوَّله، أنكرَه عليه زيدُ بن ثابتٍ، وقال ابن عَبَّاسٍ: إنَّما أراد الرِّفق، وقال أحمد: إنَّه كثير الألوان مضطربٌ؛ مرَّةً يقول: سمعتُ رَسُول الله صلعم، ومرَّةً يقول حدَّثَني عُمومتي، وأحسنُها طريقُ يَعْلَى بن حَكِيمٍ عن سليمانَ بن يَسارٍ.
          وأعلَّ ابنُ خُزيمة الأحاديثَ الَّتِي وردت فيها المزارعة عَلى النِّصف والرُّبع، وقال الطَّبريُّ: لم يثبت النَّهيُ عن إجارة الأرض ببعضِ ما يَخرج منها إذا كان معلومًا، والنَّهيُ على غير ذلك.
          واحتجَّ مَنْ جوَّزَ بحديث الباب، والأرضُ أصلُ مالٍ، فيجوز أن يعطيَها لِمَنْ يَعمل فيها كالثَّمر سواءً وكالقِراض، واحتجَّ مانِعُ المزارعةِ بأنَّها كِراءُ الأرض بما يخرجُ منها، وهو مِن باب الطَّعام بالطَّعام نسيئةً، وقد نهى الشَّارع عن المخابَرة والمحاقَلة: وهي كِراء الأرض ببعض ما يَخرجُ منها، وقالوا: لا حجَّة لكم في المساقاة الواقعة؛ لأنَّ المزارعة كانت تبعًا لها، فأمَّا الأرضُ المفردةُ فلا يجوز؛ لأنَّه يمكن إجارتها ولا تدعو إلى مزارعتِها ضرورةٌ كما تدعو إلى المساقاة، ألَا ترى أنَّ بيع الثَّمر الَّذِي لم يبدُ صَلاحه مع أصل النَّخل جائزٌ بلا شرط القطع؛ لأنَّه تَبَعٌ لها، وَلا يجوزُ بيعُها مفردةً إلَّا بشرط قَطْعِهِ لأنَّها مقصودةٌ، وقياسُهم المزارعةَ على القِراض والمساقاةِ باطلٌ؛ لأنَّ منفعتَهما لا تحصل إلَّا بالعمل بخلافِها لجواز إجارتها.
          فإنْ قيل: ما أُخِذَ مِنْ يهود خيبرَ إنَّما كان بحقِّ الجِزية لا المساقاة؟ قلتُ: فُتحت خيبرُ عنوةً كما رواه أنسٌ، وخُمِّسَت كما رواه ابن شِهابٍ، ولا يُخَمَّسُ إلَّا ما أُخذ عنوةً، وقَد قسَمها _◙_ بين الغانمين، فأعطى ابنَ الزُّبير وقْفَه مِنْ خيبرَ، ووقَفَ عمرُ سهمَه، وأجلاهم منها عمرُ إلى الشَّام لَمَّا فَدَعُوا ابنَه، وأخبرتْ عائشةُ أنَّه _◙_ بعث ابنَ رَواحَةَ ليخرُصَها ويَعلَمَ مقدارَ الزَّكاة في مال المسلمين، قال الطَّحاويُّ: وثبتَ أنَّه _◙_ لم يَقسم خيبرَ بكمالها ولكنَّه قسمَ منها طائفةً على ما ذكره ابنُ عمر، وتَرَكَ منها طائفةً لم يقسمْها على ما روى جابرٌ.
          قلتُ: والمختارُ صحَّة المزارَعة والمخابَرة كالمساقاة، وأمَّا معاملةُ أهل خيبرَ فاختلف العلماءُ فيمَنْ يُخرِج البَذْرَ، فرُوي عن ابن مسعودٍ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وابن عمر أنَّهم قالوا: يكون البَذْرُ مِنْ عندِ العامل، ورُوي عن بعض أهل الحديث أنَّه قال: مَنْ أخرج البَذْرَ منها فهو جائزٌ؛ لأنَّه _◙_ دفع خيبرَ معامَلَةً، وفي تركه اشتراط البَذْرِ مِنْ عند أحدهما دليلٌ على أنَّ ذلك يجوز مِنْ أيِّهما كان، وقال أحمدُ وإسحاق: البَذْرُ يكونُ مِنْ عند صاحبِ الأرضِ والعملُ مِنَ الدَّاخلِ.
          وقال محمَّد بن الحسن وأصحابُه: المزارعة على ثلاثة أوجهٍ جائزةٍ، ورابعٍ لا يجوز:
          فالأوَّل: أن يكون البَذْرُ مِنَ المالِك والعملُ مِنَ العامل.
          والثَّاني: أن يكون البَذْرُ والآلةُ كلُّها مِنْ قِبَلِ ربِّ الأرضِ والعملُ مِنَ العامل.
          ثالثها: البَذْرُ مِنَ العاملِ والعملُ والآلةُ كلُّها مِنْ قِبَلِه.
          والرَّابع: أن يكون البَذْرُ مِنَ العامل والباقي مِنَ المالك.
          قاسُوا الأوَّلَ على القِراض، والأخيرَ على بيعِ البَذْرِ مِنْ ربِّ المال بمجهولٍ مِنَ الطَّعام نسيئةً، ولا يجوزُ عند جميع العلماء.
          وذهب مالكٌ إلى أنَّه لا يجوز البَذْرُ إلَّا مِنْ عندِهما جميعًا وتكونُ الأرض مِنْ أحدهما والعملُ مِنَ الآخر، وتكون قيمةُ العمل تُوازي قيمة كِراء الأرض، والعلماءُ متَّفقون على جواز هذا الوجه؛ لأنَّ أحدَهما لا يَفضُل صاحبَه بشيءٍ، وإنْ كان البَذْرُ مِنْ أحدِهما والأرضُ مِنَ الآخر فلا يجوزُ عند مالكٍ، كأنَّه أَكْرَاهُ نصفَ أرضِه بنصفِ بذره، ولا يجوز عنده كِراء الأرضِ بشيءٍ مِنَ الطَّعام، ويجوز عنده وجهٌ آخر مِنَ المزارعة أن يَكْتَرِيَا جميعًا الأرض، ويُخرجَ أحدُهما البَذْرَ، ويُخرجَ الآخَرُ البَقْرَ وجميعَ العَمل، وتكون قيمةُ البَقْرِ والعملِ مثلَ قيمة البَذْرِ، فلا بأس بذلك؛ لأنَّهما سَلِما مِنْ كِراء الأرض بالطَّعام وتكافَأا في سائر ذلك.
          وأمَّا تخييرُ عمرَ أزواجَ النَّبِيِّ _صلعم_ بين الأوسُق والأرض فمعنى ذلك أنَّ أرضَ خيبرَ لم تكن لرسول الله _صلعم_ ملكًا وُرِثَتْ بعدَه؛ لأنَّه _◙_ قال: ((لا نُورَثُ، مَا تَركْنَا صَدقةٌ)) فإنَّما خيَّرَهُنَّ بين أخذ الأوسُق وبين أنْ يُقْطِعَهُنَّ مِنَ الأرض مِنْ غير تمليكٍ ما يُجَدُّ مِنْهُ مثل تلك الأوسُق لأنَّ الرُّطَب قد يُشتهى أيضًا كَما يُشتهى التَّمر، فاختارت عائشةُ ذلك لتأكلَه رُطَبًا وتمرًا، فإذا ماتت عادت الأرض والنَّخل على أصلِها وقفًا مُسَبَّلةً فيما يُسبَّل فيه الفيء.
          وأمَّا اجتناءُ القُطن والعُصْفُر ولُقَاط الزَّيتون والحصاد كلُّ ذلك بجزءٍ معلوم فأجازه جماعةٌ مِنَ التَّابعين، وهو قول أحمدَ قاسوه عَلى القِراض؛ لأنَّه يَعْمَلُ بالمال على جزءٍ منه معلومٍ لا يدري مبلغَه، وكذا إعطاء الثَّوب للصَّانع، والغَنم للرَّاعي عند مَنْ أجازها قاسَها على القِراض، ومنعَ ذلك كلَّه مالكٌ والكُوفيُّون والشَّافِعِيُّ، لأنَّها عندهم إجارةٌ بثمنٍ مجهولٍ لا يُعرف، وأجاز عَطاءٌ وابن سِيرينَ والزُّهريُّ وقَتَادة أنْ يدفع الثَّوب إلى النَّسَّاج يَنسِجُه بالثُّلث والرُّبع، واحتجَّ أحمد بإعطائه _◙_ خَيْبَر على الشَّطر.
          وقال ابن المُنْذِرِ: اختلفت ألفاظُ حديث رافعٍ، واختُلِف في العلَّة الَّتِي مِنْ أجلها نَهى عن كِراء الأرض وعن المخابَرة، فقيل: اشتراطٌ لربِّ المال نَاحيةٌ منها، أو اشتراطهم على الإجارة بما يسقي الماذِيَانات والرَّبيع لنا وما سقت الجداولُ فلكم، أو إعطائهم الأرض على الثُّلث ونحوه، أو كانوا يكرُونها بالطَّعام المسمَّى مِنَ التَّمر أو أنَّ النَّهي كان لخصومةٍ كانت بينهم، / أو النَّهي للتَّأديب، فوجب التَّوقُّف عنه ووجب القول بحديث ابن عمر لثبوته وألَّا علَّة فيه، وقد قال سالمٌ: أكثرَ رافعٌ ولو كانت لي مزارعُ أكريتُها.
          وأغربَ ابنُ حزمٍ فقال: لا يجوز كِراء الأرض بشيءٍ أصلًا لا بنقدٍ ولا عَرَضٍ ولا طعامٍ ولا بشيءٍ أصلًا، ولا يحلُّ زرع الأرض إلَّا لأحدِ ثلاثةٍ: إمَّا ببذره وماله وحيوانه، وإمَّا أن يبيحَ لغيره زرعَها مجَّانًا، فإن اشتركا في البَذْرِ والآلات دون أنْ يأخذ منه أجرةً فحسن، وإمَّا أنْ يعطي أرضَه لِمَنْ يزرعها بحيوانه وبَذْره وآلته بجزءٍ يكون لصاحب الأرض ممَّا يُخرج الله منها مسمًّى، إمَّا نصفٌ أو ثلثٌ أو ربعٌ، أو نحوُ ذلك، ولا يُشترط على صَاحب الأرض شيءٌ ألبتَّةَ مِنْ كلِّ ذلك، ويكون الباقي للزَّارع قَلَّ مَا أصابَ أو كَثُرَ، فإنْ لم يُصِبْ شيئًا فلا شيء له ولا عليه.
          وكان ابنُ سِيرِينَ يكره كِراء الأرض بالذَّهب والفضَّة، ورُوي عن الأَوزاعيِّ وعن عَطاءٍ ومكحولٍ ومجاهدٍ والحسن أنَّهم كانوا يقولون: لا تَصلُح الأرض البيضاءُ بالدَّراهم والدَّنانير ولا مُعَاملة، إلَّا أنْ يزرع الرَّجلُ أرضَه أو يمنحَها أخاه. ومعاملة أهل خَيْبر ناسخةٌ للنَّهي؛ لأنَّه قد صحَّ أنَّه _◙_ مات على هذا العمل فهو نسخٌ صحيحٌ لا شكَّ فيه، وبقي النَّهي عن الإجارة لم يأتِ شيءٌ ينسخُه ولا يخصِّصُه، ولم يصحَّ كراء الأرض بنقدٍ عن أحدٍ مِنَ الصَّحابة إلَّا عن سعدٍ وابن عَبَّاسٍ، وصحَّ عن رافعٍ وابن عمرَ، ثمَّ صحَّ رجوعُ ابن عمر، وصحَّ عن رافعٍ المنعُ منه أيضًا، وذكر الطَّحاويُّ في «اختلافَ العلماء» عن أبي يوسف أنَّه قال: وإذا أعطى الرَّجلُ الرَّجل أرضًا مزارعةً بالثُّلث أو النِّصف أو الرُّبع، أو أعطى نخلًا معاملةً بالنِّصف أو أقلَّ منه أو أكثر، فإنَّ أبا حَنِيفة يقول: هذا كلُّه باطلٌ، لأنَّه استأجره بشيءٍ مجهولٍ. قال أبو يوسف: وكان ابنُ أبي ليلى يقول: ذلك كلُّه جائزٌ، وبه نأخذ. قال الحسن بن زيادٍ: وبه نأخذ. وقال الثَّوريِّ: لا بأس به، وكذا رُوي عن ابن حيٍّ.
          فرعٌ: اختَلف العلماء في المزارعة مِنْ غير أَجَلٍ، فكرهها مالكٌ والثَّوريُّ والشَّافِعِيُّ وأبو ثورٍ حتَّى يُسمِّيَ أجلًا معلومًا، وقال ابن المُنْذِرِ: قال أبو ثورٍ: إذا لم يسمِّ سنين معلومةً، فهو عَلى سَنَةٍ واحدةٍ، وقال ابن المُنْذِرِ: وحُكي عن بعضهم أنَّه قال: أُجيزُ ذلك استحسانًا وأَدَعُ القياس. وقال بعضُ أصحابنا: ذلك جائزٌ لحديث: ((نُقِرُّكُمْ ما شِئْنَا)) فيكون لصاحب النَّخل والأرض أنْ يُخرج المُساقيَ والمُزارعَ مِنَ الأرض والنَّخل متى شاء، وفي ذلك دِلالةٌ أنَّ المزارعة تخالف الكِراء، لا يجوز في الكِراء أن يقول: أُخرجك عن أرضي متى شئت، ولا خلاف بين أهل العلم أنَّ الكراء في الدُّور والأرَضين لا يجوز إلَّا وقتًا معلومًا.