شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة

          ░12▒ باب: التَّكْبِيرِ في(1) أَيَّامِ مِنًى وَإِذَا غَدَا إلى عَرَفَةَ.
          وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلاةِ(2) وَعلى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ(3) وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ وتِلْكَ الأيَّامَ جَمِيعًا، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكان(4) النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ.
          فيه: ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ(5) قَالَ: (سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إلى عَرَفَاتٍ(6) عَنِ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلعم؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ(7) الْمُكَبِّرُ لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ). [خ¦970]
          وفيه: أُمُّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا(8) نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ(9) الْحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، / وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ. [خ¦971]
          وترجم لحديث أمِّ عطيَّة: باب خُروجِ الحُيَّضِ إلى المصلَّى، وباب اعتزالِ الحُيَّضِ المصلَّى.
          وقال(10) المُهَلَّب: أيَّام منى هي أيَّام التَّشريق، وتأوَّل العلماء فيها(11) قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ على مَا هَدَاكُمْ}[البقرة:185]، ومعنى(12) التَّكبير في هذا الفصلُ(13) _والله أعلم_ لأنَّه فصلُ(14) الذَّبائح لله تعالى، وكانت الجاهليَّة تذبح لطواغِيتِها ونُصُبِهَا، فجعل التَّكبير استشعارًا للذَّبح لله تعالى حتَّى لا يُذكر في أيَّام الذَّبح غيره، ومعنى(15) اشتراط التَّسمية على الذَّبح(16) لئلَّا يُذكر غيره(17) ويُعلن(18) بذكره حتَّى تُنسى(19) عُبَاْدَة الجاهليَّة.
          واستحبَّ(20) العلماء التَّكبير يوم العيد في طريق المصلَّى، ورُوي(21) عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنَّه كبَّر يوم الأضحى حتَّى أتى الجبَّانة، وعن أبي قَتادة أنه كان يكبِّر يوم العيد حتَّى يبلغ المصلَّى. وعن ابن عمر أنَّه كان يكبِّر في العيد(22) حتَّى يبلغ المصلَّى ويرفع صوته بالتَّكبير، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ، قال مالكٌ: ويكبِّر في المصلَّى(23) إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطعَه ولا يكبِّر إذا رجع. وقال الشَّافعيُّ: أحبُّ إظهار التَّكبير ليلة الفطر وليلة النَّحر، وإذا غدوا(24) إلى المصلَّى حتَّى يخرج الإمام، وقال أبو حنيفة: يكبِّر(25) يوم الأضحى يجهر في ذهابه ولا يكبِّر يوم الفطر. وفيها قولٌ آخر، ذكر الطَّحاويُّ عن سفينة(26) مولى ابن عبَّاس قال: كنت أقود ابن عبَّاس إلى المصلَّى فيسمع النَّاس يكبِّرون، فيقول(27): ما شأن النَّاس أكبَّر الإمام؟ فأقول: لا، فيقول: مجانين(28) النَّاس! فأنكر التَّكبير في طريق المصلَّى، وهذا يدلُّ أنَّ التَّكبير عنده الَّذي يكبِّر(29) الإمام ممَّا يصلح أن يكبِّر النَّاس معه.
          قال المؤلِّف: ولم أجد أحدًا من الفقهاء ممَّن(30) يقول بقول ابن عبَّاس. قال الطَّحاويُّ: ومن(31) كبَّر يوم الفطر تأوَّل فيه(32) قول الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ على مَا هَدَاكُمْ}[البقرة:185]، وتأوَّل ذلك زيد بن أسلم، قال الطَّحاويُّ: ويحتمل قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ على مَا هَدَاكُمْ(33)}[البقرة:185]، تعظيم الله بالأفعالِ والأقوالِ كقوله(34) تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[الإسراء:111]، قال: والقياس أن يكبِّر في العيدين جميعًا؛ لأنَّ صلاة العيدين لا يختلفان في التَّكبير فيهما والخطبة بعدهما وسائر سننهما، كذلك(35) التَّكبير في الخروج إليهما. وقال ابن أبي عِمْرَان: إنَّ السُّنَّة عند أصحاب أبي حنيفة جميعًا(36) في الفطر أن يكبِّر في الطِّريق(37) إلى المصلَّى، ولم يعرفوا قول أبي حنيفة.
          وفي حديث أمِّ عطيَّة: خروج النِّساء إلى المصلَّى كما ترجم، وقد فسرَّتْ أمُّ عطية(38) إخراج الحُيَّض فقالت: ليشهدن الخير ودعوة المؤمنين(39)، رجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، ورغبةً في دعاء المسلمين في الجماعات؛ لأنَّ البروز إلى الله لا يكون إلَّا عن نيَّةٍ وقصدٍ، فرجاء(40) بركةٍ للقصد(41) إلى الله والبروز إليه، والجماعة(42) لا تخلو(43) من فاضل من النَّاس ودعاؤهم مشترك.
          وقد اختلف النَّاس(44) في خروج النِّساء إلى العيدين، فرُوي عن أبي بكر وعليٍّ ☻ أنَّهما قالا(45): على كلِّ ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، وكان ابن عمر يُخرج من استطاع من أهله في العيد، وقال أبو قِلابة: قالت عائشة: كان(46) الكواعب(47) تخرج لرسول الله صلعم(48) في الفطر والأضحى، وكان علقمة والأسود يُخرجان نساءهم في العيد ويمنعونهنَّ(49) الجمعة، وروى ابن نافعٍ عن مالكٍ أنَّه(50) لا بأس أن تخرج المُتَجالَّة إلى العيدين والجمعة وليس بواجب، وهو قول أبي يوسف. وكرهت ذلك طائفةٌ، رُوي عن عروة أنَّه كان لا يدع امرأةً من أهله تخرج(51) إلى فطرٍ أو أضحًى، وكان القاسم أشدَّ شيء على العواتق، وقال النَّخَعِيُّ ويحيى الأنصاريُّ: لا يُعرف خروج المرأة الشَّابَّة في العيد(52) عندنا. واختلف قول أبي حنيفة في ذلك، فرُوي عنه أنَّه لم ير خروج النِّساء في شيء من الصَّلوات غير العيدين، وقال مرةً أخرى: كان يُرخَّص للنِّساء في الخروج إلى العيدين، فأمَّا اليوم فأنا(53) أكرهه. وقول من رأى خروجهنَّ أصحُّ لشهادة السُّنَّة الثَّابتة له.
          وفي حديث أمِّ عطيَّة حجَّةٌ لمالكٍ والشَّافعيِّ في قولهما: إنَّ النِّساء يلزمهنَّ التَّكبير في(54) عقيب(55) الصَّلوات في أيَّام التَّشريق، وأبو حنيفة لا يرى عليهنَّ تكبيرًا، وخالفه(56) أبو يوسف ومحمَّد فقالا(57) بقول مالك: إنَّ التَّكبير على النِّساء كما هو على الرِّجال.
          وقد ذكر(58) البخاريُّ عن ميمونة زوج النَّبيِّ صلعم، أنَّها كانت تُكبِّر يوم النَّحر، وأنَّ النِّساء كنَّ يكبِّرن خلف أَبَان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز، وهذا أمر مستفيض. قال المُهَلَّب: وإنَّما أمر الحُيَّض باعتزال المصلَّى خشية الاختلاف أن يكون طائفةٌ تصلِّي وطائفةٌ بينهم(59) لا تصلِّي، وخشية ما يحدث للحائض / من خروج الدَّم الَّذي لا يُؤمن ذلك منها، فتؤذي من جاورها وتنجِّس موضع الصَّلاة(60).


[1] قوله: ((في)) ليس في (ق) و (م) و(ص).
[2] في (م) و (ق): ((الصلوات)).
[3] قوله: ((وفي فسطاطه)) ليس في (م) و (ق).
[4] في (م): ((وكنَّ)).
[5] قوله: ((الثقفي)) ليس في (م)، و في (ق): ((فيه ابن بكير الثقفي)).
[6] في (م): ((عرفة)).
[7] في (ص): ((ونكبر)).
[8] قوله: ((كنا)) ليس في (ق).
[9] في (ق): ((يخرج))، في (ص): ((تخرج)).
[10] في (م) و(ق): ((قال)).
[11] في (ق): ((في)). في (م): ((تأول العلماء في التكبير أيام منى)).
[12] قوله: ((قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، ومعنى)) ليس في (ق).
[13] في النسخ غير (ق) و(ص): ((الفضل)) والمثبت من (ق) و(ص).
[14] في (م) و(ي): ((فضل))، في (ص): ((تصل))، والمثبت من (ق).
[15] في (ق): ((وبمعنى)).
[16] في (م): ((وهو معنى اشتراط الله التسمية على الذبيحة)).
[17] قوله: ((اشتراط التسمية على الذبح لئلا يُذكر غيره)) ليس في (ق).
[18] في (ق): ((ويعلي)).
[19] في (ق): ((ينسى))، في (ص) غير منقوطة.
[20] في (م): ((استحب)).
[21] في (م): ((روي)).
[22] في (ق): ((العيدين)).
[23] قوله: ((حتى يبلغ المصلى، ويرفع... ويكبر في المصلى)) ليس في (ق).
[24] في (م) و (ق): ((غدا)).
[25] في (ص): ((تُكبر)).
[26] في (م) و (ق): ((شعبة)).
[27] في (ق): ((فقال)).
[28] في (ق): ((مجلبين)).
[29] في (م): ((يكبره)) في الموضعين. في (ص) مطموسة.
[30] في (ي): ((من)). في (م) و(ق): ((ولم أجد من الفقهاء من)). قوله: ((ممَّن)) ليس في (ص).
[31] في (م): ((من)).
[32] قوله: ((فيه)) ليس في (ق) و (م) و(ص).
[33] قوله: ((وتأول ذلك زيد بن.... على مَا هَدَاكُمْ)) ليس في (ق).
[34] في (ق): ((لقوله)).
[35] زاد في (م) و(ق): ((سنة)).
[36] في (ق): ((عند أصحابنا جميعًا)).
[37] قوله: ((في الطريق)) ليس في (ص).
[38] زاد في (م) و(ق) و(ص): ((معنى)).
[39] في (ص): ((المسلمين)).
[40] في (م): ((فَرُجِي))، و في (ق): ((ترجي)).
[41] في (ق) و (م) و (ي) و(ص): ((القصد)).
[42] في (ق): ((والجماعات)).
[43] في (ص): ((لا تخلوا)).
[44] في (م) و(ق): ((العلماء)).
[45] زاد في (ق): ((حق)).
[46] في (ق) و (م) و(ص): ((كانت)).
[47] في (م): ((الكعاب)).
[48] زاد في (ق): ((من خدرها)).
[49] في (ي): ((ويمنعوهن)). في (م) و (ق): ((العيدين ويمنعوهن))، في (ص): ((ويمنعانهن)).
[50] قوله: ((أنه)) ليس في (م) و(ق) و (ي) و(ص).
[51] في (ق): ((تخرج من اهله)).
[52] في (م) و (ق): ((العيدين)).
[53] في (م) و(ق): ((فإني)).
[54] قوله: ((في)) ليس في (م) و(ق).
[55] في (ي) و(ص): ((عقب)).
[56] زاد في (م) و (ق): ((صاحباه)).
[57] في (ص): ((قالا)).
[58] في (م): ((الرجال، وذكر)).
[59] في (م) و(ق): ((بينهن)).
[60] زاد في (ق) و(م): ((والله أعلم)). في (م): ((فتؤذي به من جاورها وتنجس به موضع الصلاة والله أعلم)).