شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الدعاء في العيد سنة العيدين لأهل الإسلام

          ░3▒ باب: سُنَّةِ الْعِيدَيْنِ لأهْلِ الإسْلامِ.
          فيه: الْبَرَاء: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم، يَخْطُبُ، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنْ(1) يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا). [خ¦951]
          وفيه عَائِشَة: (أنَّ النَّبيَّ صلعم دَخَلَ عليها وَعِنْدِها جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأنْصَارِ تُغَنِّيَانِ، مِمَا تَقَاوَلَتِ به الأنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَبمَزَامِير(2) الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلعم! وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ(3): يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا). [خ¦952]
          سنَّة العيدين الصَّلاة، قال مالكٌ: وصلاة العيدين(4) سنَّةٌ لأهل الآفاق لا تُترك، وروى ابن القاسم عنه في القرية فيها عشرون رجلًا: أرى أن يصلُّوا العيدين، وروى عنه ابن نافعٍ: أنَّه(5) ليس ذلك إلَّا على من تجب عليه الجمعة، وهو قول اللَّيث وأكثرُ أهل العلم، وقال ربيعة: كانوا يرون الفرسخ وهو ثلاثة أميالٍ، وقال / الأوزاعيُّ: من آواه اللَّيل إلى أهله فعليه الجمعة والعيد(6)، وقال ابن القاسم وأشهب: إن شاء من لا يلزمهم(7) الجمعة أن يصلُّوها(8) بإمامٍ فعلوا(9)، ولكن لا خطبة عليهم، وإن خطب(10) فحسنٌ.
          وقوله: (أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةَ) يدلُّ أنَّ الخطبة بعدها، وقد جاء هذا منصوصًا بعد هذا. وفيه أنَّ النَّحر لا يكون إلا بعد الصَّلاة.
          قال المُهَلَّب: وفيه دليلٌ(11) أنَّ العيد موضوعٌ للرَّاحات وبسط النفوس إلى ما يحلُّ من الدُّنيا والأخذ بطيِّبات الرِّزق وما أحلَّ الله من اللَّعب والأكل والشُّرب(12) والجماع؛ ألا ترى أنَّه أباح الغناء من أجل عذر العيد قال(13): (دَعْهُما يَا أبَا بَكْر، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيْدٍ)، وكان أهل المدينة على سيرةٍ مِن أمر الغناء واللهو، وكان النَّبيُّ صلعم(14) وأبو بكر على خلاف ذلك؛ ولذلك أنكر أبو بكرٍ المغنيتين في بيت عائشة؛ لأنَّه(15) لم يرهما قبل ذلك بحضرة النَّبيِّ صلعم، فرخَّص في ذلك للعيد وفي ولائم إعلان(16) النِّكاح.
          وقوله: (تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ بِهِ الأنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ) تريد ترفعان أصواتهما بالإنشاد، وكلُّ من رفع صوته بشيءٍ ووالى به مرَّةً بعد مرَّةٍ(17) فصوته عند العرب غناءٌ، وأكثره فيما شَاقَ من صوتٍ أو شجا من نغمةٍ ولحنٍ، ولهذا(18) قالوا: غنَّت الحمامة، وتغنَّى الطَّائر، هذا قول الخطَّابيِّ. وإنَّما(19) كانتا تنشدان المراثي التي تُحزن وتبعث النُّفوس على الانتقام من العدوِّ، وهي مراثي مَنْ أُصيب(20) يوم بعاث، فأباح النَّبيُّ صلعم(21) هذا النَّوع من الغناء.
          وقولها(22): (وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ) تعني الغناء الَّذي فيه ذكر الخَنا(23) والتَّعريض بالفواحش وما يسمِّيه(24) المُجَّان وأهل المعاصي غناء(25) مما يكثر التَّنغيم فيه.
          قال المُهَلَّب: وهذا الَّذي أنكره(26) أبو بكر كثرة التَّنغيم وإخراج الإنشاد عن وجهه إلى معنى التَّطريب بالألحان؛ ألا ترى أنَّه لم ينكر الإنشاد وإنَّما أنكر مشابهة الزَّمير، فما(27) كان من الغناء الَّذي يجري هذا المجرى من اختلاف النَّغمات وطلب الإطراب فهو الَّذي تُخشى فتنته واستهواؤه للنُّفوس، وقطع الذَّريعة فيه أحسن، وما كان دون ذلك من الإنشاد ورفع الصوت حتَّى لا يخفي معنى البيت، وما أراده الشَّاعر بشعره فغير منهيٍّ عنه، وقد رُوي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه رخَّص في غناء الأعراب، وهو صوتٌ كالحداء يُسمَّى النَّصْب إلَّا أنَّه رقيقٌ.
          وروى(28) النَّضْر بن شُمِيل، عن محمَّد بن عَمْرٍو، عن يحيى بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر في الحجِّ حتَّى إذا كنَّا بالرَّوحاء كلَّم القوم رَبَاح بن المُعْتَرِف، وكان حسن الصَّوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا وقصِّر عنا المسير فقال: إنِّي أَفْرَق عمر، فقام أصحاب رسول الله صلعم إلى عمر فكلَّموه، فقال: يا رَبَاح، أسمعهم وقصِّر عنهم المسير، فإذا أسحرت(29) فارفع قال: فرفع عقيرته وتغنَّى(30). فهذا وما أشبهه مما(31) يُدعى غناء لم يُر به بأس(32)، ولم يُر فيه إثم(33)؛ لأنَّه حداءٌ يحثُّ المطيَّ ويُقصِّر المسير ويُخفِّف السَّفر(34)، وستأتي(35) زيادةٌ في هذا المعنى(36) في باب كلُّ لهوٍ باطلٌ إذا شغل(37) عن طاعة الله في آخر كتاب الاستئذان [خ¦6301]، ويأتي(38) في(39) فضائل القرآن عند قوله: ((لَيسَ مِنَّا مَنْ لم يَتغَنَّ بِالقُرآنِ))، [خ¦5023] من أجاز(40) سماع القرآن بالألحان ومن كرهه(41).


[1] في (م): ((نبدأ به من)). في (ص): ((نبدأ في)).
[2] في (ق): ((أمزامير)).
[3] زاد في (م) و (ق): ((رسول الله صلعم)).
[4] في (ي): ((العيد)).
[5] قوله: ((أنه)) ليس في (ق) و (م) و(ص).
[6] زاد في (م) و(ق): ((ذكره ابن المنذر)).
[7] في (ص): ((لا تجب عليهم)).
[8] في (ق): ((يصلوا)).
[9] في (م) و (ق): ((فعلوه)).
[10] في (ق): ((خطبوا)).
[11] زاد في (م) و (ق): ((على)).
[12] في (ي) و (م) و(ص): ((والشراب)).
[13] في (م) و (ق): ((وقال)).
[14] في (م): ((وكان صلعم)).
[15] صورتها في (ز) و(ق) و(ص): ((لأنهما)) والمثبت من (م) و(ي).
[16] في (م) و (ق): ((في ذلك ◙ من أجل العيد كما رخص فيه في الولائم وإعلان)).
[17] في (ي): ((أخرى)).
[18] في (ق): ((فلهذا)).
[19] في (ق): ((فإنما)).
[20] زاد في (م) و (ق): ((من آبائهم)).
[21] قوله: ((النبي صلعم)) ليس في (م).
[22] في (م) و (ق): ((وقوله)).
[23] زاد في (م) و (ق) صورتها: ((والابتهار بالنساء)).
[24] في (ص): ((تسميه)).
[25] في (م) و (ق): ((يسميه أهل المواخير والمجان [في (ق): ((والمخاري))] غناء)).
[26] في (م) و (ق): ((أنكر)).
[27] في (م): ((الزمر فيما)).
[28] في (م): ((روى)).
[29] في (ز) و(ي) و(ص): ((سحرت)) والمثبت من (م) و(ق).
[30] في (م) و (ق): ((يتغنى)).
[31] قوله: ((مما)) ليس في (ص).
[32] في (م) و (ق): ((بأسًا)).
[33] في (م) و (ق): ((إثمًا)).
[34] في (م) و (ق): ((ويخفف عن المسافر)).
[35] في (ص): ((وتأتي)).
[36] في (ز) و(ي) و(ص): ((الباب)) والمثبت من (م) و (ق).
[37] في (ي): ((إذا أشغل)).
[38] زاد في (م): ((أيضًا)).
[39] في (ص): ((عند)).
[40] في (ص): ((أجل)).
[41] زاد في (م): ((إن شاء الله)).