شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل العمل في أيام التشريق

          ░11▒ باب: فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «اذْكُروا(1) اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ» أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالأيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ(2) وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ ابْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبيُّ صلعم(3): (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ، قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ(4) يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ). [خ¦969]
          وقال(5) المُهَلَّب: العمل في أيَّام التَّشريق هو التَّكبير المسنون، وهو أفضل من صلاة النَّافلة؛ لأنَّه لو كان هذا الكلام حضًّا على الصَّلاة والصِّيام في هذه الأيَّام لعارض قوله صلعم: ((أيَّامُ أَكلٍ وشُربٍ))، وقد نهى عن صيام هذه الأيَّام، وهذا يدلُّ على تفريغ هذه الأيَّام للأكل والشُّرب واللَّذة، فلم يبق تعارضٌ إذا عنى بالعمل التَّكبير.
          وقوله: (يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ) يعني يكافح العدوَّ بنفسه وسلاحه وجواده، فيسلم من القتل أو لا يسلم منه، فهذه المخاطرة، وهذا(6) العمل أفضل في هذه الأيَّام وغيرها مع أنَّ هذا العمل لا يمتنع صاحبه من إتيان التَّكبير والإعلان(7) به.
          وقوله: (فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) يحتمل ألَّا يرجع بشيء من ماله ويرجع هو(8)، ويحتمل ألَّا يرجع هو ولا مالُه فيرزقه الله الشَّهادة، وقد وعد الله عليها الجنَّة(9).
          واختلف العلماء في الأيَّام المعلومات فقال بقول ابن عبَّاسٍ أنَّها أيَّام العشر: النَّخَعِيُّ، وبه قال الشَّافعيُّ وقال: وفيها يوم النَّحر، ورُوي عن عليٍّ وابن عمر أنَّ المعلومات يوم النَّحر ويومان بعده، وبه قال مالكٌ، قال الطَّحاويٌّ: وإليه أذهب لقوله تعالى: {ويَذْكُرُوا(10) اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}[الحج:28]، وهي أيَّام النَّحر. قال المُهَلَّب: إنما سُمِّيت معلوماتٍ(11)؛ لأنَّها عند النَّاس كلِّهم معلومةٌ للذَّبح فيتوخَّى المساكين القصد فيها(12) فيُعْطَون.
          وأمَّا المعدودات فعامَّة العلماء على أنَّها أيَّام التَّشريق الثَّلاثة بعد يوم النَّحر كما قال ابن عبَّاسٍ، وإنَّما سُمِّيت معدوداتٍ _والله أعلم_ لقول الله ╡(13): {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:203]، يعني فمن تعجَّل في النَّفر من منى، فنفر في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخَّر فنفر في اليوم الثَّالث(14) فلا إثم عليه(15). وقيل: إنما سُمِّيت أيَّامُ التَّشريق معدوداتٌ؛ لأنَّه إذا زِيد عليها في البقاء كان حصرًا لقوله ◙: ((لا يَبقِيَنَّ مُهاجِرٌ(16) بمكَّةَ بعدَ قَضاءِ نُسُكُهِ(17) فَوقَ ثلاثٍ)). وأمَّا خروج ابن عمر، وأبي هريرة إلى السُّوق وتكبير النَّاس بتكبيرهما قد قالت طائفةٌ به(18)، والفقهاء لا يرون ذلك، وإنَّما التَّكبير عندهم من وقت رمي الجمار؛ لأنَّ النَّاس فيه تبعٌ لأهل منى كما قال مالكٌ.
          وأمَّا تكبير محمَّد بن عليٍّ خلف النَّافلة فهو قول الشَّافعيِّ(19)، وسائرُ الفقهاء لا يرون التَّكبير(20) إلَّا خلف الفريضة.


[1] في (م) و(ق): ((واذكروا))، و في المطبوع: ((ويذكروا اسم)) والمثبت موافق للصحيح ولم يقصد تلاوة الآية.
[2] في (ق): ((يكبر)).
[3] في (ص): ((قال ◙)).
[4] قوله: ((خرج)) ليس في (م) و(ق) و(ص).
[5] في (م) و(ق): ((قال)).
[6] في (ق): ((فهذا)).
[7] في (ص): ((والإتيان)).
[8] قوله: ((ويرجع هو)) ليس في (ص).
[9] في (م) و(ق): ((بالجنة)).
[10] في نسخنا: ((ليذكروا)).
[11] قوله: ((على مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ.... سُمِّيت معلومات)) ليس في (ق).
[12] في (ق): ((بها)).
[13] في (م): ((لقوله تعالى))، في (ص): ((لقول الله تعالى)).
[14] قوله: ((فنفر في اليوم الثالث)) ليس في (ص).
[15] قوله: ((عليه)) ليس في (ق).
[16] في (م): ((لا يبقى مهاجريٌّ)).
[17] قوله: ((بعد قضاء نسكه)) ليس في (ص).
[18] في (م) و (ق): ((فقد قالت به طائفة)). في (ص): ((فقالت طائفة به)).
[19] في (ق): ((النافلة فيه قال الشافعي)).
[20] في (م) و(ق): ((الفقهاء يقولون لا يكبر)).