عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء في البناء
  
              

          ░53▒ (ص) بابُ / مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ.
          (ش) أي: هذا باب ما جاء في البناء وذمِّه مِنَ الأخبار، والبناء أعمُّ مِن أن يكون مِن طينٍ أو حجرٍ أو طُوب أو خشبٍ أو قصبٍ ونحو ذلك، وقد ذمَّ الله ╡ مَن بنى ما يفضل عمَّا يُكنُّهُ مِنَ الحرِّ والبرد ويستره عَنِ الناس، فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:128-129] يعني: قصورًا، وقد جاء عَن رسول الله صلعم أنَّهُ قال: «ما أنفق ابنُ آدم في التراب فلن يُخلَفَ له ولا يؤجَر عليه» وأَمَّا مَن بنى ما يحتاج إليه ليُكِنَّه مِنَ الحرِّ والبرد والمطر؛ فمباحٌ له ذلك، وكذلك كان السلفُ يفعلون، ألا ترى إلى قول ابن عُمر ☻: بنيتُ بيتي بيدي، يُكِنُّني مِنَ المطر... إلى آخره، وروى ابن وَهْب وابن نافع عَن مالكٍ قال: كان سَلْمانُ يَعملُ الخوص بيده وهو أميرٌ، ولم يكن له بيتٌ، إِنَّما كان يستظلُّ بالجُدْر والشجر، وروى ابن أبي الدنيا مِن رواية عُمارة بن عامر: إذا رفع الرجل فوق سبعة أذرع نودي: يا فاسق؛ إلى أين؟
          (ص) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم : «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رُعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ».
          (ش) هذا التعليق مضى موصولًا مُطوَّلًا في (كتاب الإيمان) في (باب سؤال جبريل ◙ النَّبِيَّ صلعم عن الإيمان) فَإِنَّهُ أخرجه هناك عن مُسَدَّدٍ... إلى آخِرِه، ومضى الكلام فيه هناك.
          قوله: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) أي: مِن علامات يوم القيامة، وهو جمع (شَرَط) بفتحتين، وإِنَّما جُمِعَ جمعَ القلَّة مع أنَّ العلامات أكثر مِنَ العشرة؛ لأنَّ بين الجمعين مقارضة، أو أنَّ الفرق بينهما في الجموع النكرة، لا في المعارف.
          قوله: (رُعَاةُ الْبَهْمِ) بِضَمِّ الراء وبتاء التأنيث في آخره، هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <رِعاء> بكسر الراء وبالهمز مع المدِّ، وقال ابن الأثير: «الرِّعاء» بالكسر والمدِّ، جمع راعي الغنم، وقد يُجمَع على «رُعاة» بالضمِّ، و(البُهْمِ) بِضَمِّ الباء: جمع (الأبهم) وهو الذي يخلط لونَه شيءٌ سوى لونه، وبفتحها: جمع البَهْمَة، وهي أولاد الضأن، وقيل: البَهم أيضًا المجتمعة منها، ومِن أولاد المعز.
          وحاصله: أنَّ الفقراء مِن أهل البادية تُبسَط لهم الدنيا يتباهَوْن في إطالة البنيان، وهؤلاء الذين يتولَّون بلاد مصر والشام كانوا في بلادهم لا يملكون شيئًا، وهم في أضيق المعيشة، وغالبهم كانوا رُعَاة، فإنَّهم يبنون كلَّ قصر مزخرف يُصرَف عليه أكثر مِن قِنطار ذهب، ويُسرِفون في المآكل والمشارب والملابس بما لا يَرضى اللهُ به ولا رسولُه، والأمر لله الواحد القهَّار!