عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب لا يتناجى اثنان دون الثالث
  
              

          ░45▒ (ص) باب لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذْكَر فيه: لا يتناجى _أي: لا يتخاطب_ شخصان أحدهما للآخر دون الشخص الثالث إلَّا بإذنه، وقد جاء هذا ظاهرًا في رواية مَعْمَر عَن نافعٍ عَن ابن عُمَر مرفوعًا: «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلَّا بإذنه، فإنَّ ذلك يُحْزِنُهُ» ويَشْهد له قولُهُ تعالى: {إِنَّما النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية[المجادلة:10].
          (ص) وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المجادلة:9-10]، وَقَوْلِهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المجادلة:12-13].
          (ش) هذه أربع آيات مِن (سورة المجادلة) الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} الآية، وتمامها بعد قوله: {وَالتَّقْوَى} {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المجادلة:9]، الآية الثانية: قوله: {إِنَّما النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}] [المجادلة:10]، الآية الثالثة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12]، الآية الرابعة قوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المجادلة:13].
          وساق الأصيليُّ وكريمة الآيتين الأوليَيْن بتمامهما، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقول الله ╡ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا} إلى قوله: {الْمُؤْمِنُونَ}>، وكذا ساق الأصيليُّ وكريمة الآيتين الأخريين بتمامهما، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقول الله ╡ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ}> وأشار البُخَاريُّ بإيراد الآيتين الأوليين إلى أنَّ الجائز المأخوذ مِن مفهومِ الحديث مقيَّد بألَّا يكون التناجي في الإثم والعدوان.
          قوله: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ}) [قال الزَّمَخْشَريُّ: خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون للمؤمنين؛ أي: إذا تناجيتم] فلا تَشَبَّهوا بأولئك في تناجيهم بالشَّرِّ، وتناجوا بالبرِّ والتقوى.
          قوله: ({إِنَّما النَّجْوَى}) أي: التناجي ({مِنَ الشَّيْطَانِ}) أي: مِن تَزيِيْنِهِ ({لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}) بما يبلغهم مِن إخوانهم الذين خرجوا في السرايا مِن قتلٍ أو موتٍ أو هزيمة ({وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ}) أي: بإرادته.
          قوله: ({فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}) عن ابن عَبَّاس: وذلك أنَّ الناس سألوا رسول الله / صلعم فأكثروا حَتَّى شقُّوا عليه، فأدَّبهم الله تعالى وفطمهم بهذه الآية، وأمرهم ألَّا يناجوه حَتَّى يقدِّموا الصدقة، فاشتدَّ ذلك على أصحاب النَّبِيِّ صلعم فنزلت الرُّخصة، وقال مجاهدٌ: نُهُوا عَن مناجاة النَّبِيِّ صلعم حَتَّى يتصدَّقوا، فلم يناجِه إلَّا عليٌّ ☺ ، قَدَّم دينارًا فتصدَّق به، فنزلت الرخصة ونسخ الصدقة، وعن مقاتل بن حَيَّان: إِنَّما كان ذلك عشر ليالٍ ثُمَّ نُسِخ، وعَن الكلبيِّ: ما كانت إلَّا ساعة مِن نهارٍ.
          قوله: ({أَأَشْفَقْتُمْ}؟) أي: خفتم بالصدقة؛ لِما فيه مِنَ الإنفاق الذي تكرهونه، وإنَّ الشيطان يعِدُكم ويأمركم بالفحشاء، ({فإِذْ لم تَفْعَلوا}) ما أُمِرْتُم به وشَقَّ عليكم {وَتَابَ الله عَلَيكُم}) فتجاوَزَ عنكم، قيل: الواو صِلة.